فى منتصف عام 1976- أى قبيل وفاة «العندليب الأسمر» بأشهر قليلة كانت آخر زيارات عبدالحليم للمملكة العربية السعودية، لتأدية مناسك العمرة، وفيها حضر غسيل الكعبة، وحرص على الصلاة فى الأركان الأربعة للكعبة المشرفة، برفقة مدير شرطة مدينة مكة المكرمة فى ذلك الوقت، والشيخ جميل جلال الذى كان يشرف على طواف الملوك والرؤساء حينها بحسب موقع المصري اليوم .
وبعد انتهاء المناسك، عاد حليم إلى القاهرة ثم توجه إلى لندن فى رحلة علاج أخيرة، حيث توفى فى 30 مارس عام 1977.
كانت الزيارة بمثابة «مسك الختام» لحياة مليئة بالحب والتعب والكفاح والغناء للعندليب، لاتزال تفاصيلها ساكنة داخل قلوب محبيه فى مصر والوطن العربى، ولم تنقطع سيرته على ألسنتهم أبدا، خاصة عندما تحل ذكرى ميلاده أو وفاته، ففيهما تلتقى أهواء العشاق، مع نغمات الإذاعات، وشاشات التلفاز، للاحتفاء به، وتدليله وتمجيده، وسرد الحكايات عنه، كما لو كان حيا ولم يفارق الدنيا، للدرجة التى دفعت الملحن كمال الطويل -صديق عمره- لوصف شهر مارس، الشاهد على رحيله، بـ «مولد سيدى حليم».
أقرب للصوفية
يبدأ الفنان حسن يوسف ذكرياته مع «حليم» من كواليس صورة انتشرت منذ فترة على مواقع التواصل الاجتماعى، يظهر فيها العندليب بصحبته يؤديان الصلاة فى جماعة داخل منزل الأول، حيث يقف إمامًا وجواره يوسف، الذى يحكى أنها كانت ضمن أحداث أسبوع قضاه فى منزلالمطرب الشاب آنذاك، للاستعداد لفيلم «الخطايا»، ففيه لعبا دور الأشقاء.
يقول يوسف: «طلب منى حليم أن نتعرف أكثر على بعضنا، وأن أقيم فى منزله لمدة أسبوع للتحضير للعمل، لنقترب أكثر من بعضنا ونندمج كشقيقين فعلا، ليظهر ذلك على أدائنا التمثيلى داخل الفيلم».
وعن هذه الصورة تحديدا يحكى «حسن» أنه اكتشف عبدالحليم «الإنسان» الذى يعيش حياة بسيطة، بعيدة عن التكلف وحسابات النجومية، ويمارس طقوسه بشكل طبيعى «يرتدى الجلباب والطاقية أغلب الوقت داخل منزله، ويحرص على أداء جميع الفروض فى أوقاتها، وكان يطلب منى أن نصلى الصلاة فى أوقاتها معا».
استفاد منه حسن يوسف كثيرا خلال هذه الفترة، على حد قوله، ولاحظ طقوسه الخاصة وتدينه الذى وصفه بـ«المتصوف»، مشيرا إلى أنه «كان حريصا على قراءة بعض الآيات من المصحف قبل النوم مباشرة، وكنت أرى فيه قيم أبناء القرى وتدينهم الذى يفوق تدين أبناء المدينة».
يتوقف يوسف عند جملة سمعها من العندليب يوما وظلت عالقة فى أذهانه حتى يومنا هذا: «من كرم ربنا إن المرض ما اشتدش عليا إلا لما بقى معايا فلوس وقادر أتعالج»، ويستدل منها على صبر حليم على البلاء، مؤكدا أنه «كان راضيا بمرضه، ولم أستشعر لحظة أنه ناقم على ما أصابه، حتى إنه قليلا ما كان يشكو منه»، مضيفا: «التدين لم يفارقه طوال حياته.. لمست هذا تماما بحكم الصداقة التى نشأت بيننا منذ فيلم الخطايا، ولمسته أكثر فى أغانيه الدينية التى قدمها فى آخر حياته، ففيها تظهر بقوة روح التصوف التى تميز بها».
يقول حليم عن نفسه فى مذكراته التى نقلها عنه الكاتب الصحفى الكبير منير عامر قبل وفاته: «فى طفولتى، لم يكن الشيخ يضربنى لأننى كنت أحفظ القرآن وأجيد كتابة الواجب»، ويتذكر بعد ذلك جده الشيخ شبانة الذى كان يقرأ القرآن و«تسكت له الطير» على حد تعبيره، ثم يروى أنه ذات مرة طلب منه المؤذن فى الجامع أن يؤذن بنفسه لصلاة العصر «صعدت إلى المئذنة، وناديت الله أكبر.. الله أكبر، وصليت العصر معهم».
أسرة محافظة
الشاعر الكبير صلاح فايز- الذى كان صديقا لشقيق العندليب إسماعيل شبانة- يبدأ كلماته عن عبدالحليم من نظرة عامة على مسيرته التى رأى أنها «نقلة فى الغناء من عصر التخت الشرقى والطرب البطىء إلى الإيقاع السريع والإحساس الجميل»، إلا أنه لم يلمس هذا الإحساس بقوة فى أغانيه الدينية التى اختتم بها مسيرته، مبررا ذلك بأنه يعتقد بشكل كبير أن «عبدالحليم لم يختر هذه الأغانى بنفسه، إنما اختير لغنائها، وهناك فارق كبير بين أن تملس الكلمات وتختارها وبين أن تؤديها لمجرد أنها أشعار جميلة تم اختيارك لغنائها».
ويشرح «فايز» فكرة الاختيار هذه بأن «فى هذا الزمن كان هناك ما يعرف باسم مختارات الإذاعة، وفيها يقدم الشاعر كلماته للإذاعة التى ترسلها بدورها إلى لجنة التوزيع التى تختار الملحن والمطرب، وقد وقع الاختيار على الملحن محمد الموجى والمطرب عبدالحليم حافظ، ليقدما أشعار عبدالفتاح مصطفى للجمهور».
من هنا يرى «فايز» بشكل شخصى أنها «لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بمشاعر روحانية لدى حليم، ولم يغنها بدافع التدين أو ترك أثر مختلف فى آخر مسيرته وكأنها توبة أو محاولة للتقرب إلى الله»، مؤكدا وجهة نظره بأن «حليم كان مريضا دائما منذ بداية مسيرته، ومع ذلك لم يفكر بهذا المنطق، ولم يقدم أغانى دينية»، لأنه على حد اعتقاد الشاعر الكبير «لم يكن يفكر فى الموت بهذه الصورة، ولم يشغل به خاطره».
كان الشاعر صلاح فايز قريبا أكثر من إسماعيل شبانة شقيق العندليب، وكتب له أغانى من بينها «أكثر 3 بحبهم ابنى وبنتى وأمهم» و«أربع بنات من غير ولد»، وبحكم هذه العلاقة، يؤكد «فايز» أن «حليم تربى داخل أسرة محافظة، ملتزمة بالقيم وتعاليم الدين، أى أنه لم يكن بعيدا عن هذا، فقط فرق عنهم بمعيار النجومية، وهذا لا يعنى أنه نسى نشأته وما أسسه داخله شقيقه الأكبر الملتزم، الزاهد فى الشهرة».
يحكى حليم فى مذكراته عن شقيقة إسماعيل شبانة، قائلا: «كان إسماعيل هو الأخ الأكبر فعلا، لقد كان هو الإنسان الذى فوجئ بأنه مطلوب منه أن يكون الأب والأم والصديق، ولقد استطاع أن يوفى الرسالة، وكان إيمانه بالله إشعاعا ينشره من حوله، علمنى فى هذه السنوات أن أمسك المصحف، وكان المصحف هو هديته لى عندما نجحت، وعلمنى كيف أقرأ القرآن وأجد فيه راحة.. إن القرآن هو صعود إلى أعلى، إلغاء للكراهية، مزيد من الحب القوى، معرفة أن الله يحب الإنسان وأن الحياة رحلة كفاح جميلة وعذبة».
الإخوان والتيارات الدينية
وصف الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودى، عبدالحليم حافظ، فى حوار سابق أجرته معه «المصرى اليوم»، بأنه «كان شاباً ناصرياً، شكل مسيرة للغناء الوطنى مع كمال الطويل وصلاح جاهين»، وهو ما يؤكد عليه الكاتب الصحفى الكبير والإعلامى مفيد فوزى، الذى جمعته صداقة وطيدة بالعندليب طوال حياته، رأى خلالها أنه «ناصرى بحب عبدالناصر، لا بالمعنى الأيديولوجى، فلم تكن السياسة بالنسبة له منهجا شديدا يحب أن يتدخل فيه، لأنه لم يكن يميل إلى التصنيف بشكل عام».
بنفس المنطق، يقول «فوزى» إن «حليم لم تهمه على الإطلاق التيارات الدينية والإخوان وصراعها مع دولة ناصر، ويكاد يكون لا يسمع عنهم حتى، وكل ما يعرفه هما الهضيبى وسيد قطب، والثانى تحديدا لأن الجماعة قدمته كناقد أدبى ومثقف، ثم عرفنا بعد ذلك أنه أبو الإخوانية ومنهجها، ولم يشغل تفكيرنا لأى شكل، فديوان لنزار قبانى أو قصيدة لمرسى جميل عزيز كانت أهم عند حليم من كل هذه التيارات والأفكار».
يتابع «فوزى» حديثه بأن «حتى محاولات بعض المتشددين استفراز مشاعر حليم فى هذه الفترة باءت بالفشل»، على غرار الشيخ عبدالحميد كشك، الذى سخر من أغانى العندليب فى إحدى الخطب، ووصفه بأنه رجل المعجزات لأنه «ماسك الهوا بإيديه، والهوا هواه، ويتنفس تحت الماء»، ليكشف الإعلامى الكبير أن «حليم وقتها ضحك بشدة».
«كان العندليب واثقا فى أن جموع الجماهير لن تتأثر بهذه الكلمات، وراهن على الوعى وقتها، وبالفعل ربح الرهان»، يقول فوزى هذا، ثم يضيف: «لم نكن نسمع أبدا عن التشدد بمفهومه الآن.. الفن للفن فقط، حتى عندما تغنى حليم ذات مرة بـ (قدر أحمق الخطى) لم تسن السكاكين ضده، فقط كانت مجرد آراء تطرح دون معارك ولا صدامات، وهو لا يبالى».
عدم المبالاة تلك، لا يطرحها «فوزى» كعيب، بل ذكاء فى شخصية العندليب، مبررا ذلك بأنه «كان يعرف أنه لا يجب إقحام الدين بسهولة فى كل جملة يقولها»، وتذكر موقفا فى حوار صحفى سابق مع العندليب، عندما سُئل عن أغنية «قارئة الفنجان» وما إذا كان يصدق الفنجان والودع وغيرها، فرد «قارئة الفنجان تجتهد فى أن تعرف خطوط الفنجان، لكنها لا تحدد المصير أبدا»، وهو ما اعتبره مفيد «ذكاء فى الرد من رجل مثقف
لم يفكر فى الموت
فى أوائل الخمسينيات، نشأت الفرقة الماسية، والتى أصبحت رفيقة عبدالحليم حافظ فى حفلاته، وبات أعضاؤها مرتبطين بالعندليب على المستويين الفنى والشخصى، بحكم الغناء والتحضيرات التى كان مقرها منزله، والتى قد تستغرق زمنا أكبر من الذى يقضونه بين أسرهم.
ومن بين أعضاء الفرقة فى هذا الوقت، الموسيقار محمد على سليمان، الذى جمعته بحليم علاقة قوية على المستوى الشخصى بعيدا عن «البروفات» والمسرح، حتى إنه اكتشف شقيقه «عماد» وأعطاه اسمه ليعرف بعد ذلك بـ«عماد عبدالحليم».
ومن واقع هذه العلاقة يقول «سليمان» عن العندليب إنه «كان رجلا ملتزما جدا، ومتواضعا إلى درجة لم نعهدها فى نجوم هذا الزمن، لدرجة أنه لا يتردد فى توقيف سيارته والخروج منها ليصافح معجبا».
ويحكى «سليمان» عن تدين حليم بأنه «كان خاصا جدا، بعيدا عن (المنظرة)، حتى إنه فى فترة البروفات التى كانت تستمر بالساعات يوميا لمدة شهر فى حال لو كانت الأغنية جديدة، كان يتركنا وينفرد بسجادة الصلاة داخل غرفته، ليؤدى الفرض، وأحيانا يتصادف أن يقوم أكثر من عضو فى الفرقة لأداء الصلاة ويتوسطهم العندليب فى جماعة».
التدين فى حياة العندليب- من حديث سليمان- لا يتوقف فقط عند الصلاة والعبادات «فمنزله لا يخلو من الفقراء والمحتاجين، ولا يتردد أبدا فى مساعدتهم، فى مشهد لا يعبر إلا عن قلب رحيم، مؤمن، يعرف الله جيدا»، هذا الإيمان لمسه الموسيقار أيضا فى «دموعه القريبة»، وعندما يشتد عليه المرض «ففى هذه الفترة يختلى حليم بنفسه تماما، وفى الزيارات يجب أن تلمح المصحف بجواره، ومع ذلك لا تأتى سيرة الموت على لسانه، ولا تلحظ عليه أنه يخشى اقترابه، حتى آخر سفرياته التى عاد منها محمولا، لم يكن يرى أن فيها نهايته».
يشير عبدالحليم حافظ بنفسه إلى هذا فى مقدمة مذكراته التى نقلها عنه الكاتب الصحفى الكبير منير عامر قبل وفاته، قائلا: «أبدأ كتابة هذه المذكرات فى يناير 1973، فى أكسفورد، حيث أعالج من نزيف المعدة.. الأطباء يقولون إن هذه أخطر علامات المرض، لكنى لا أصدق الموت، أحس أنى أخدعه دائما وأهرب منه».
الأغنية الدينية و«مسك الختام»
يستكمل «سليمان» حديثه عن حليم، ويتذكر كواليس الأغانى الدينية التى قدمها العندليب فى آخر مسيرته، نافيا- فى سياق متصل- أنه كان يقدمها لشعوره بأن الأجل قريب، «فقط كانت لديه رغبة فى ضمها لمسيرته» إلا أن أهم ما يميزها عن غيرها أنه «رفض تقاضى أجر عليها، بل بالعكس كان ينفق من جيوبه على ألحانها والعازفين لتقديمها».
يؤكد أيضا الشاعر الكبير مصطفى الضمرانى على هذا، بالإشارة إلى أن «العندليب لم يتقاض أجرا على أغانيه الدينية، وكان يعتبرها بمثابة صدقة جارية، خاصة أنه فى أيامه الأخيرة بدأ يستشعر قرب الأجل ويلمّح فى حديثه بيننا إلى هذا، لذلك خرجت هذه الأغانى بمشاعر أقرب للتعبد ومحاولات التقرب إلى الله».
ويضيف «الضمرانى»: «فى وقت مرضه وأثناء الزيارات تلمح مصحفه على بعد سنتيمترات من وسادته، وفى الأيام العادية تلمس فى كلماته أنه قريب إلى الله لدرجة كبيرة، خاصة أنك داخل بيت أكثر ما يميز سكانه- من أشقائه وأحبابه- هو التدين والمحافظة».
كان أول لقاء جمع الضمرانى وحليم، صدفة، فى مبنى الإذاعة فى ماسبيرو، حيث كان العندليب متوجها إلى استديو 46 لإجراء بروفة لإحدى أغانيه. ولمح الشاعر فناداه ليعرب له عن إعجابه بأغنية «ماتقولش إيه اديتنا مصر» التى تغنت بها المطربة الراحلة عليا التونسية، لكنه لام على «الضمرانى» لأنه كان يتمنى أن يغنيها مصرى، قائلا: «أنا كنت مستعد أغنى هذه الأغنية لو سمعتها منك»، وطلب منه أن يستشيره بعد ذلك إذا كتب أغنية وطنية، وهو ما اعتبره الشاعر «تواضعا» لم يتوقعه، كان تمهيدا لالتقائهما فى أغنية «المركب عدت» بعد ذلك، فى إشارة أخرى إلى «قلب عامر احتوى شاعرا شابا فى بداياته، وغيرة على الوطن وأغانيه تلمس منها ملامح التدين داخله»، على حد قوله.
يفسر عبدالحليم حافظ قلبه أكثر- من وحى القرآن- فى مذكراته، قائلا: «حديقة شاسعة، فيها أزهار وأشجار ونخيل وأعناب، وجزء شبه الغابة، ونهر ملىء بخمور الود، ونهر آخر ملىء بمياه الصفاء».