هذا عنوان كتاب بالإنكليزية، صدر لي قبل أيام، عن ناشر كبير في لندن، يقدّم ترجمة قصائد مختارة من آخر شعراء الحداثة في العراق: عبد الرزاق عبد الواحد، الذي رحل عن عالمنا يوم 8/11/2015 في مستشفى في باريس. والعنوان مستوحى من «رجل لجميع الفصول» وهو ما كان يوصف به سر توماس مور، (1478 ـ 1535) كبير مستشاري الملك هنري الثامن، ملك بريطانيا. كان مور رجلاً متعدد المواهب، وأنا أرى أن عبد الرزاق شاعر متعدد المواهب الشعرية. فهو قد كتب قصائد فذة في السياسة بمعناها الفلسفي القومي، غير الحزبي، كما كتب في الغزل قصائد في غاية العذوبة. وكتب في الهجاء أراجيز غاية في الطرافة، وكتب روائع في الشعر الدرامي، بالمعنى الأرسطي، التي تقدم الإنسان في صورته الفكرية الأعلى، ولا تقدم السلطان. وهو لم يتلوّث بالحزبية أو الطائفية في شعره، ولو أنه عاش فترات حرجة من الهياج السياسي، يتساقط الآخرون فيها من حوله، ولا يدركون: إنما هذه المذاهب أسباب/ لجذب الدنيا إلى الرؤساء، وهو ما أدركه حكيم المعرّة قبل أكثر من ألف سنة.
عرفتُ عبد الرزاق في سنتنا الأولى بدار المعلمين العالية ببغداد عام 1948. كان هو في قسم اللغة العربية وأنا في قسم اللغات الأجنبية. كانت العالية يومها، وعلى امتداد العقود اللاحقة، منبت الشعر الحديث الذي ألهَم أقطاراً عربية أخرى. هنا منبت سليمان العيسى، نازك الملائكة، السياب، البياتي، وكان عبد الرزاق الفائز الدائم بجوائز الشعر، في اجتماعات الساعة العاشرة كل صباح خميس. وبسبب من محبتي الشعر، منذ أيام المدرسة، توثقت صداقتي مع عبد الرزاق، وبقيت أتابع إنجازاته، والكتابة عن شعره في مناسبات عديدة. وبقينا على تواصل في سنوات الشتات، منذ الثمانينات، والفضل للهواتف والإنترنت. وكان آخر حديث لي معه على الهاتف، وأنا في كمبرج، وهو في المستشفى بباريس، حيث أملى عليّ آخر ما كتب عن التولّه بالعراق، ساعات قبل رحيله، بعنوان، يا عراق:
خوفاً على قلبك المطعون من ألمي سأطبق الآن أوراقي على قلمي
نشرتُ فيك حياتي كلها علماً الآن هبْني يداً أطوي بها علَمي
ياما حلمتُ بموتٍ فيك يحملني به ضجيجٌ من الأضواء والظلَمِ
أهلي وصحبي وأشعاري منثّرةٌ على الجنازة أصواتاً بلا كلِمِ
إلا عراقُ تناديني.. وها أنا ذا أصحو بأنأى بقاع الأرضِ من حُلُمي
فأبصرُ الناس، لا أهلي ولا لُغتي وأبصر الروح فيها ثلمُ مُنثلمِ
أموتُ فيكم، ولو مقطوعة رئتي يا لائمي في العراقيين، لا تلُمِ
محبة العراق والعرب عامة، وفلسطين على الخصوص، هي السمة البارزة في شعر عبد الرزاق، في جميع ما كتب من شعر. ليس في هذا الشعر «السياسي» أي شعارات أو «مفهومات» معلبة جاهزة، مما يجري على ألسنة الوصوليين، أو زعماء المناسبات والعواصف الموسمية، التي لا تلبث أن تخمد، فينقلب «الزحفطون» السياسي، من رهط «الزاحفين على البطون» إلى «خانة» ثانية، بل ثالثة. كانت محبة العراق عند عبد الرزاق مطوّقة بالتاريخ والحضارة. نجد ذلك في قصيدة «عام الفيل» حيث صمود العربي منذ ما قبل الإسلام بوجه الغزو الحبشي بقاعدته المسيحية الرومية. أبو رغال لم يصمد طويلا ولم تنفعه خيالات الخيانة، التي سرعان ما قضت عليه. ألا نرى في هذه الثورة تلميحات إلى ما يجري في عالمنا العربي اليوم، من تصرفات زعماء آخر زمان؟ أهو يقين أم تفاؤل غرير؟
وموقف الشاعر من صدام حسين هو من الغرابة والمثالية بحيث يغدو أشبه بحبة البطاطا الحارة التي يصعب بلعُها، كما يقال بالإنكليزية. الشاعر معجب بشخصية الزعيم لا بسياسته. وقد قال هذا على الملأ في أكثر من مناسبة، وعلى التلفزيون في مناهج رآها الجميع فأصابتهم بالحيرة. مثل ملايين العراقيين كان الشاعر مع صدام في حربه على إيران. واليوم، من النادر أن تسمع خارج المجالس الخاصة من ينتقد صدّام على موقفه من إيران. ولكن الأمر ليس كذلك من حرب الخليج وغزو الكويت. والشاعر من بين هؤلاء الملايين. والنقاش في هذا الموضوع يشكل، حتى في هذه الأيام، مَجلبَة للمخاطر. كان الشاعر يرى في صدّام رمزاً للعراق وعنفوانه، ولن ندخل في جدل حول القناعات الشخصية.
في قصائد مثل «أيّها الغضب الحنظل» التي كتبت عند صدور الأوامر بتوقف الزحف على قوات العدو والانسحاب من الجولان عام 1973 خير دليل على عروبة مشاعر هذا الشاعر. ومثل ذلك قصائد عن فلسطين وكثرة الإشارات إليها في قصائد عديدة.
ترنّ في الأذن قصائد تبدأ هكذا: «باسم العراق/ أكسِّر الأختامَ عن صوتي المدمّى/ بي ما أنوء به/ وقد سمّيتُ حتى الغيب/ لكن الذي بي لا يسمّى… «خائفٌ؟ أي شيء تُراني أخاف؟… غاضبٌ؟ من جميع العرب…» من موقفهم من العدوان على العراق.
وفي الغزل، تحسب الشاعر في عشرينات العمر، وهو المتزوج من طبيبة وله منها بنين وبنت، متعلّق بهم جميعاً. لكن شعره الغزلي كمن قال: «غير أني رُمتُ نهجَ الظُّرَفا/ عفّة َالنفس وفُسقَ الألسنِ». لكنه غير فاسق اللسان، بل عذبه، يكاد يذكّرك بعمر بن ابي ربيعة… أحياناً. وهذه الناحية الرقيقة في شعر عبد الرزاق توسِّع من مدى شاعريته. فهو ليس شاعر سياسة وحسب، ولا شاعر غزل وحسب، ولا داعية دين أبداً. لكن قصيدته الدراميّة الهائلة بعنوان «الحُرّ الرياحي» قد توحي لقارئ بريء التوجّه أن الشاعر «شيعي» جدّاً في هذا الموقف من مقتل الحسين. ومثله قصائد الاحتفاء بالعتبات المقدسة. لكن عبد الرزاق شاعر «فوق الميول والنزَعات» كما كان يقال عن «الزعيم الأوحد». ونحن في العراق، قبل الغزو الأمريكي عام 2003 الذي أفسد كل شيء في العراق، حتى الأخلاق الشخصية والقناعات، لم نكن نسأل الشخص عن دينه أو مذهبه. لكن حتى الهواء تبدّل بعد الغزو الأمريكي. على معرفتي الحميمة بهذا الشاعر، طوال سنين عديدة، لم أكن أعرف أي دين أو معتقد أو مذهب يتبع. ولكن حادثة طريفة عرّفتني أن عبد الرزاق من أتباع الديانة الصابئية، أقدم ديانات المشرق العربي. لم يكن في كلام الشاعر ولا في تصرفاته ولا في كتاباته ما يشير إلى أنه من تلك الفئة المسالمة التي تعيش في جنوب العراق وتؤكد على النظافة والتطهّر بمياه دجلة، كما تطهّر يوحنا المعمدان بالمياه الفلسطينية. كنتُ مدعوّاً إلى مؤتمر شعري في الرياض بالسعودية، وكان ثمة بعض الأدباء القادمين من بغداد. بقينا يومها ننتظر عبد الرزاق ليعود من القاهرة في الاحتفال بذكرى الشاعرين شوقي وحافظ. فلما وصل بعد طول انتظار كان وجهه مشرقاً بابتسامات وتعليقات ساخرة: عطّلوني ساعتين في مطار الرياض يسألوني: ما معنى صابئي؟ بما أنك عراقي، لماذا انت غير مسلم؟ لماذا صابئي؟
كانت هذه أول مرة أسمع من الشاعر أنه صابئي. ثم ماذا؟ الشاعر فيه هو ما يعنيني.
وفي الهجاء لم يسلم من عبد الرزاق حتى تمثال عباس بن فرناس، الذي أقيم في أول طريق مطار بغداد ولم يعجب الشاعر. يتمنّى لو أن النحّات كان فرنسياً «لرفضت أخلاقه المعاصِرة/ أن تنتهي رجلاك عند الخاصرة» والخطوط الجوية العراقية لم تسلم من مداعباته. ينصح طالب السفر: «واذهب إلى المطار قبل يومين/ لكي تكون واثقاً من أمرين/ فأولاً أن هناك طائرة/ وأنها بعد غد مسافرة/ ما ذاك إلاّ أن ما نُشيرُ/ نوعٌ من الحيطة لا يضيرُ… فهي إذا ما قبّطتْ… تطير… مثل باصات علاوي الحلة. سامحك الله.
عبد الواحد لؤلؤة