انقشع غبار عاصفة الحزم أو كاد عن معادلة معقدة، يمكن تلخيصها بأنها اتفاق بنكهة الهزيمة.
تسربت حتى الآن روايتان إحداهما تتحدث عن اتفاق من أحد عشر بندا، تبدأ من عودة هادي إلى اليمن، وتنتهي عند بحث دخول اليمن إلى البيت الخليجي، مرورا بانسحاب الحوثيين وتسليم السلاح، وتحولهم إلى حزب سياسي، وخروج آل صالح، وانتخابات برلمانية ورئاسية، وحكومة وحدة وطنية.
روجت هذه الحكاية دوائر مقربة من النظام السعودي، والواضح أنها أقرب إلى التمنيات منها إلى حديث الوقائع.
والرواية الثانية تقضي بانسحاب الحوثيين إلى خارج المدن الرئيسة في ظرف ثلاثة شهور، وتشكيل مجلس رئاسي بقيادة بحاح، ومشاركة الحوثيين، وموافقتهم. المقلل أصدق.
دخل السعوديون العاصفة للردع ووضعوا ثمانية شروط (أغلبها متضمن في التمنيات أعلاه)، ثم قلصوها إلى أربعة (بعضها في النسخة الثانية)، بعد معاينة حجم الأضرار الاقتصادية، والتقديرات بفظاعة التكاليف البشرية، والعسكرية في حال النزول إلى بر النزال.
باكستان لم تستطع فعل شيء لأن بين ظهرانيها ملايين الشيعة، ومصر أقرب إلى الموقف الإيراني، وهي تريد ثمنا جديدا لكل خطوة، وأرزا كثيرا. وتركيا لا تريد الدخول في حروب، وربما ليست دوائر صنع قرارها السياسي والعسكري على قلب رجل واحد!. السعودية لما بدأت بتحريك أسطولها البحري وجدت أنه لا يصلح للعمل منه إلا ثلاث قطع بحرية، بحسب معلومات صحفية قريبة من الدقة.
ثم اكتشفت أن جبهتها في اليمن غير متماسكة؛ فالقيادات السياسية الموالية لها ترفض أي دور للإصلاح، وهو إحدى أكثر القوى اليمنية مصداقية، وتتخوف من تحالف رجال القبائل، مع القاعدة وهو خط أحمر عند الأمريكيين.
الإمارات تجامل وترسل الأموال والمعلومات إلى الحوثي، وتغازل إيران سرا، وعبر وسطاء في الإعلام المصري علنا، إيران ترعد وتزبد وقد سجرت البحر ١٢ قطعة معلنة، ونظمت مناورات ربما هي الأكبر في تاريخها، وأشعلت المناطق القريبة من الحدود السعودية العراقية، وهو كلام معناه، إما أن نسرب إليكم داعش، أو نحكم حدودكم الشرقية، أو نجمع بينهما. وزادت بيتا من الشعر في لبنان، لتخاطب السعودية بلسان عربي يفهم آل سعود جيدا كلامه.
قالت تقارير صحفية إن محمد بن نايف عندما زار أردوغان طلب منه تهدئة الأوضاع مع إيران، وإن الأخير تحدث إلى الساسة الإيرانيين لغة غير التي تحدث بها قبيل الزيارة. ما يقال في الغرف المغلقة ليس هو دائما ما يسمعه الصحفيون، لكنهم لا يلبثون أن يسمعوه.
وذهب أردوغان إلى طهران يبحث عن حل سياسي أو يقترحه، ثم دخلت أمريكا عن طريق وسيطها المأمون. السلطان قابوس جاهز دائما لسكب المُلَينات على صدأ حديد المواقف في المنطقة. يعمل الداهية اللقِن بعيدا عن الأضواء، بعيدا عن فوهات المدافع، قريبا من الأدمغة. وأنجزت الصفقة.
بحاح رئيسا، مع مجلس رئاسي يشارك فيه الحوثي، وقوة الحوثي على الأرض، خارج المدن، علي صالح يخرج إلى إثيوبيا، أو عمان. وبحضور السفير الإيراني في الرياض صيغ كل شيء، وانتهى، لمْحَ عاصفة.
تلقت السعودية "ضمانات كاذبة" من إيران بشأن تحول الحوثي إلى حزب سياسي، وطمأنة معلنة من أمريكا بحفظ أمن المملكة، وضمانا كاذبا من الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز بولاء المبعوث الأممي الجديد، التكنوقراطي الهادئ: إسماعيل ولد الشيخ أحمد.
السعودية "بلا جيش" رغم إنفاقها الحربي الهائل (استوردت السعودية في سبع سنوات [1997 - 2004] من أمريكا وحدها ما قيمته قرابة 56 مليار دولار) وبين أركان الحكم تراكم من عدم الثقة.
محمد بن سلمان شاب متغطرس عمره أقل من ثلاثين سنة، لا يريد أن يرى غيره في واجهة القرار السياسي والعسكري، استبعد ابن عمه متعب بن عبد الله وزير الحرس الوطني، رغم القوة الضاربة التي يقود، وقبل إنهاء العملية بسويعات استخرج له قرار مشاركة.
تشير إليه أصابع الاتهام في عمليات فساد في أكثر من ملف، بما فيها تجهيز، أو بناء مركز قيادة العملية الأخيرة.
بحاح، الذي ينظر إليه الآن على أنه الرئيس القادم لليمن في أيام،خمسيني من حضرموت، درس الإدارة في الهند وعمل سفيرا بالأمم المتحدة، ووزيرا للنفط في حكومتين من حكومات علي صالح، فرضه صالح والحوثي والإمارات و"سعودية التويجري" وجمال بن عمر، على هادي منصور، خلفا للرجل المستقيم علي باسندواه.
في ظل حكومته أحكم الحوثي وصالح قبضتهما على كل شيء. هو الآن رئيس بالفعل فاوضت عليه إيران، ثم وافقت. فهل يمكنه أن يكون ثورة، أو أن يقود ثورة؟ لا أظن.
عاد اليمن إلى المربع الأول بميزان قوة على الأرض يميل لصالح مجموعة صالح دون شخصه ربما، ومن وراء السُّتُر وأمامها أصابع إيران وأمريكا، هذه الأخيرة متشبثة بالحوثي أملا في كسر شوكة القاعدة.
خيار حرب أهلية سيبقى أبرز الاحتمالات القادمة. لأن أجهزة الدولة تقاسم بين الحوثي وصالح، وسيرغم الحوثيون السعودية على حرب استنزاف على حدودها، فإذا أنهكت السعودية الحوثي وأنهكها. ربما تنشب مواجهات على حدود السعودية خلال أيام، بحسب بعض التقديرات.
صالح والحوثي والسيسي والولايات المتحدة سيغنمون أموالا هائلة مما يسمى إعادة الإعمار التي ستدفعها السعودية للشركات اليمنية والمصرية والأمريكية. وهو ما سيقوي شوكتهم.
الصيغة التي انتهى إليها المشهد في النهاية هي أن كلا الطرفين أعلن انتصاره؛ السعودية أصالة عن نفسها، وإيران أصالة عن نفسها، وقبل أن تنتهي العملية بساعات. وسكت الحوثيون وصالح، ربما للتفاهمات. السعودية هزمت، وربما يكون صالح أيضا هزم، وانتصرت إيران فعلا.
وعلى مستوى القوى السياسية اليمنية فستكون كتلة الإصلاح وشباب الثورة، والحراك الجنوبي، رغم موقعهم الضعيف، أكثر الأطراف راحة بال. لا هم انخرطوا في نزاع مسلح مكشوف يمنح الخصوم كل معلوماتهم، ولا هم بقوا محايدين في الصراع، وسيسعهم في النهاية ما وسع عموم اليمنيين فإن جنحوا إلى السلم كانوا ذوي حجة وإن قاتلوا قاتلوا وبهم قوة.
وما أظن الأمر منتهيا على هذا الحد فالسعودية، أقنعت الحوثيين بأنها لو قدرت لقضت عليهم، وأغرتهم بضعف جيشها، ومنحتهم حصانة، لأنها مكنتهم من خوض حرب تجريبية (تمرين).
سيناريوهات المستقبل، ربما لا تكون قابلة للقراءة بوضوح الآن، لكن شبح الحرب الأهلية ما زال ماثلا، ولم يفكك أي من أسبابه الحقيقية، وبقاء اليمن دولة فاشلة، ما زال احتمالا هو الأقرب، وتواصل عاصفة الحزم بمنحى لا "أمل في انتهائه" قائم هو الآخر تحت أضواء شموس اليمن وأقماره.
هذا إذا لم تكن الولايات المتحدة، التي جرى الاتفاق بضغطها الحاسم، قد قررت تسليم مفاتيح المنطقة إلى إيران ضمن "الصفقة الكبرى"، وعندئذ يكون عملها تهدئة للفورة السعودية، وإعادة للمملكة إلى ما قبل بداية عهد الملك سلمان. هذا سيناريو سيء، سوداوي، بعيد الاحتمال، تحول دونه موانع استراتيجية وعسكرية، وأمنية وتاريخية، لكن تقلبات الأيام علمتنا أن نتوقع الأسوأ، ما دامت العين الاستراتيجية حولاء. وما دامت المنطقة لا تملك قرارها.
إذا كانت السعودية قد فرضت بعاصفة الحزم "صفقتها الكبرى" مع الولايات المتحدة، وأدخلت إلى ملف التفاوض العراق وسوريا، ولبنان، وربما ليبيا، فسيكون محور السعودية وتركيا وقطر قد ربح جولة تكافئ التي ربحتها إيران في ملفها النووي، وهو أيضا أمر لا يمكن استبعاده؛ فقرار الدول الثلاث ذو ثقل هائل في ميزان السياسة الدولية.
لم تكن نهاية العاصفة متوقعة، كما لم تتوقع بدايتها منتظرة، فهل يتوقع أحد أن يملك التكهن بنتائجها؟ لا أظن. والله غالب على أمره.