في أواسط تسعينيات القرن الفارط كنت وأضرابي من أبناء المحروسة كرو ممن يرتادون المحاظر - على ظلع - نتلقف أخبار علماء البلد وجديدها، وكنا نسمع عن ظهور عالم شاب من أهل هذا الصقع أظل من جهة الحجاز يأتي الوطن في العطلة لماما، وأنه من أفذاذ علماء بلاد المسلمين.
كانت أحاديث الركبان ووارد الأخبار شحيحة عن العالم الظاهر حديثا، ووسائل التواصل لا تسعف كثيرا عكس حالنا اليوم، ولا زلت أذكر ظهر يوم من أيام خريف 1997 وقد توقفت سيارة قرب الحائط تقل طيب الذكر "الجعفري" الذي كان يأتينا الخير من قبله ليزف إلي بشرى قدوم الشيخ، وأنه جاء في رحلة دعوية هي الأولى للمحروسة كرو، كنت في الطريق الرابط ما بين المنزل ودار الأستاذ الفقيه: محمد بن سيدي محمد بن مولاي جنوبا حيث نزل الشيخ ورفقته، يتنازعني شعورا الرهبة المودعة في العلماء الربانيين والرغبة المغروسة عند طلبة العلم في لقائهم والاستفادة منهم، وحين دلفنا مع باب الدار ميزْتُ الشيخ بسهولة من الحاضرين الأخيار الذين أحاطوا به إحاطة الهالة بالبدر والمشكاة بالمصباح، تلقاني الشيخ ببشاشته المدمنة ومحياه الطلق وفي تلك السنة كانت الأمطار شحيحة وجرى ذكر الاستسقاء وأذكر إنشاده استسقائية الشيخ: محمدالمامي بن البخاري الذي تضمنت حروف أبياتها الأول حروف الآية الكريمة {ادعوني أستجب لكم}
أَدْعُوكَ يَا خَيْرَ مَدْعُوٍّ وَمَأمُولِ *** وَمُسْتَغَاثٍ وَمَرْجُوٍّ وَمَسْؤُولِ
دُعَاءَ مُضْطَرِبٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ *** حِسًّا وَحَالاً عَنِ الأَسْبَاب مَعْزُولِ
كان المجلس عامرا بمحبي الشيخ وأجاويد طلبة العلم الذين وفدوا من أرجاء المدينة ولكل أسئلته الخاصة والشيخ ينفق مما آتاه الله، وفي المساء كنا على موعد مع محاضرة للشيخ في مسجد محظرة أهل ديدي استسقى في آخرها وجاء المطر قبل أن تنتهي..
أحببت في الشيخ أول ما لقيته خصالا كثيرة متعددة تعدد محفوظاته وسعتها أطال الله بقاءه ولكن خصلة واحدة أراها البوابة الجذابة المشرعة أمام الجميع وهي خصلة التواضع الجم والقرب من عموم الناس.
كانت زيارة الشيخ الثانية للمدينة بعد سنتين تقريبا، ألقى فيها بعض الدروس، وفي مجلس علمي ليلي في دار طيب الذكر الشيخ امود بن محمد المختار بن السالم كان السائلون نواكس الأذقان، وفي الحلقة العلامة الشاب ابن المحروسة كرو فقيد المعرفة: سيدي محمد بن نعمه الذي كانت أسئلته وهو القادم حينها من المحظرة قطب رحى الحلقة، فهي أسئلة منتقاة مركزة تليق بالسائل والمسؤول، وفي هامش المجلس من استمرأ لازمة "أسكِ" كلما أفاض الشيخ من معين معرفة هياج، كانت ليلة من أحسن الليالي المعرفية المشهودة:
وعشية كم كنت أرقب وقتها *** سمحت بها الأيام بعد تعذر
نلنا بها آمالنا في روضة *** تهدي لناشقها نسيم العنبر
كثيرا ما أتجنب لقاء الشيخ في الأماكن العامة وإحراجه بالسلام لغير ضرورة، وأقول لمن يريد مني ذلك إني متصدق بحصتي من الشيخ على عموم المسلمين لعظيم حاجتهم فيه، وزياراتي لمنزله معدودة ودائما في حاجة لآخر:
ولكن حبا خامر القلب في الصبا *** يزيد على مر الزمان ويشتدو
وفي سنة 2003 كان الشيخ حفظه الله ورعاه قد ذاع صيته وانتشرت التسجيلات الصوتية من محاضراته ودروسه وأقبل عليها الشباب ولا يجلس طالبا علم إلا وكان الشيخ ثالثهما وفي خضم أحداث دولية وتوجه حكومي بدأت إرهاصاته منذ بعض الوقت لربط علاقات بين البلد والكيان الصهيوني الغاصب كانت اللحظة الفاصلة والعلامة المميزة والتمحيص القادم للشيخ ومحبيه حيث أصدر الشيخ فتوى بوجوب مقاطعة البضائع الإسرائيلية ليشفعها بأخرى تندب لقطع العلاقة مع الكيان نفسه أودع على إثرها السجن مع جلة من العلماء والدعاة ممن يلفون لفه ويصغون لقوله، وهنا بدأت علاقة أخرى مع الشيخ تتمثل في الإشادة والإنشاد وإن شئت فقل "طابع العلاقة الشعري بيني وبين الشيخ " وهو ما سأتعرض له في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى من هذه الخربشة
يتواصل...