نِتنياهو هُوَ الذي تَوسَّل الوُسَطاء المِصريّين لوَقفِ الصَّواريخ في حَربِ غزّة رُعبًا مِن وُصولِها إلى تَل أبيب وليسَ العَكس.. أهالِي القِطاع يَحتَفِلون بالنَّصر ولكنّهم كانوا يُريدون الاستمرار.. ولِماذا نَتوقَّع وُصولَ المُقاوَمة للضِّفَّةِ قَريبًا جِدًّا؟ وكيفَ سيَكون رَدُّ قُوّات أمن السُّلطة المُتعاوِنَة مَع الاحتِلال؟
عندما هاتَفت أمس الصَّديق والزَّميل حلمي موسى الذي قضَى أكثَر مِن عشرِ سنواتٍ في سُجونِ الاحتلال، وعادَ إلى قِطاع غزّة بعد إقامَةٍ طويلةٍ في بيروت، حيثُ كانَ يعمل في الزَّميلة العَزيزة صحيفة “السفير” قال “لا تسْألني عَن أحوالي، فهِي أفضَل مِن أحوالكم جَميعًا، فغزّة تُوزِّع الفَخر ومَعانِي الكَرامة على العالم بأسْرِه، والنّاس كانَت تَرقُص طَرَبًا وهِي تَرى الصَّواريخ “تلعلع” في سَماء القِطاع في طريقِها إلى المُستَوطنات الإسرائيليّة، وتَسودهم حالةٌ مِن الغَضَب لتوقّفها.
الصُّورة التي رسَمها الصَّديق حلمي بعفويّته الصَّادِقة وجَدت أصداءً سريعةً وغير مسبوقة في مُعظَم أنحاء العالَمين العربيّ والإسلاميّ، رغم أنّ المُواجَهة لم تَدُم إلا ليَومٍ ونِصف اليَوم فقط، تَلاها أسرع وَقفٍ لإطلاقِ النّار في تاريخِ الصِّراع العربيّ الإسرائيليّ.
أهالي قِطاع غزّة الذين يعيشون حِصارًا تَجويعيًّا مِن الإسرائيليين وبعض العرب معًا، نَزلوا إلى الشَّوارع في احتفالاتٍ عارِمةٍ بالنَّصر، يتبادلون التَّهاني ويُوزِّعون الحَلوى، ولِسان حالهم يقول أنّهم يتمنَّون لو طالَ أمَد الحَرب، الأمر الذي يُكذِّب بنيامين نِتنياهو الذي قال “أن أعداءنا توسّلونا لوقف إطلاق النّار، فأنا أرى الصورة كامِلة التي تتعلَّق بأمن إسرائيل، وأسْمَع أصوات سُكّان الجنوب الذين يتَعرَّضون للقَصفِ، وما خَفِيَ كانَ أعْظَم”.
***
نِتنياهو يَكذِب لأنّه كانَ يَسْمع “تَوسُّلات” المُستَوطِنين في غِلافِ قِطاع غزّة، بَوقفِ إطلاق النَّار، بعدَ أن لَجَأ مِليون مِنهُم إلى المَلاجِئ، وجَرى تَعطيلُ المَدارِس، وصَمّت آذانهم أصوات صَفَّارات الإنذار وأزيز الصَّواريخ وانفِجارَاتِها.
450 صاروخًا وقذيفة سَقطَت فَوق رُؤوس المُستَوطِنين، وأرسَلت أكثَر مِن 60 مُصابًا إلى المُستَشفَيات، بعد أن أثبَتَت دَرَجَةً عالِيةً مِن الدِّقّة في إصابَة أهدافِها، وحَمَلَت رؤوسًا تَفجيريّةً عاليةَ الكَفاءة أثارَت الرُّعب والهَلع في نُفوسِ الخُبَراء العَسكريين الإسرائيليين أنفُسهُم.
الأسرار التي يَعرِفها نِتنياهو، ودفعته إلى قُبولٍ سَريعٍ لوَقْفِ إطلاق النّار، أبرزها أنّ استمرار هَذهِ الحَرب سيَعنِي وصول الصَّواريخ إلى قلب تل أبيب ودَفْعِ المَلايين مِن سُكّانها والبَلدات المُجاوِرة إلى المَلاجِئ، وتَعطيلُ المِلاحَة الجَويّة في مَطار اللِّد، وهُروب الاستثمارات ورُؤوس الأموال إلى لندن ونيويورك وفرانكفورت في نِهايَة المَطاف، فأُسطورَة القُوّة الإسرائيليّة تتَفَكَّك، والتَّفَوُّق الجويّ لم يَعُد حاسِمًا وفَقَدَ مَفعوله بالرَّد الصَّاروخيّ، وأيّام عَربدتِه في سورية انتَهت إلى غير رَجعَةٍ، والهِجْرَة المُعاكِسة تَزداد قُوّةً.
حرب الـ 48 ساعَة الأخيرة في قِطاع غزّة غيّرت مُعظَم المُعادَلات إن لم يَكُن كُلها، ولم تَعُد أرض القِطاع وأجواؤه مَفتوحةً للغارات الإسرائيليّة ودُونَ رَدٍّ رادِعٍ، فمَن يستطيع تَدمير حافِلة بصاروخ “كورنيت” (جاءَت هديّةً مِن حِزب الله) بدِقَّةٍ مُتناهِيَةٍ، يستطيع تَدمير عَمارات فوق رؤوس مُستَوطِنيها في يافا وحَيفا واللِّد والرَّملة وأسدود وعَسقَلان، ناهِيك عن سِدروت المُحاذِيَة للقِطاع.
صواريخ غزّة التي لم تَعُد “عبثيّةً” صَدَّرت الأزَمَة إلى الإسرائيليين، وأذَلَّت إفيغدور ليبرمان، وتُهَدِّد بالإطاحة بنِتنياهو مِن عَليائِه وحُكومته، وإرساله إلى السِّجن على خُطى سلفه إيهود أولمرت، فالسَّكاكين تُشحَذ، والتُّهَم جاهِزة، واللُّعَب على عُنصُرِ الزَّمَن اقتَرَب مِن نِهايَتِه.
إرهاصات مَوجة الكرامة هَذهِ ستَصِل إلى الضِّفَّة الغَربيّة حتمًا، إن لم تَكُن وَصَلَت فِعْلًا، ورُبّما أسرع ممّا يتَوقَّعُه نِتنياهو والرئيس محمود عبّاس نفسه، ولا نَعتقِد أن قُوّات أمن الأخير، التي شاهَدنا أحد قادَتها يَجْثُوا على رُكبَتيه لمُساعَدة نُظرائِه الإسرائيليين في تبديلِ إطارِ سيّارتهم المَعطوب، سَتُوقِف هَذهِ المَوجة، رُغمَ كُل ما تمْلُكه مِن أدواتِ قَمْعٍ.
***
جَذْوَة المُقاوَمة في الأراضي العربيّة المُحتلَّة رُبّما تَخْبُوا قَليلًا، ولكنّها لا تموت، وهذا ما لا يُدْرِكُه الكَثير مِن المُطَبِّعين الذين اعتَقدوا ذلِك للأسَف وفَرشُوا السَّجَّاد الأحمَر للإسرائيليين وقادَتهم ووزرائِهم، وفِرَقهُم الرِّياضيّة.
الشَّعب الفِلسطينيّ لن يَسْتَسلِم، وسيَظَل يُقاوِم ومَعَه كُل الشُّرَفاء الذين ما زالوا يَقْبِضون على جَمْرِ المُقاوَمة، ويُقَدِّمون قوافِل الشُّهَداء نِساءً ورِجالًا، ويَصنَعون المُعجِزات دُونَ كَلَلٍ أو مَلَلٍ.
أهلنا في غزّة يعيشون حالةً معنويّةً في ذروة قمّتها، ويَنتَظِرون المَزيد مِن الرَّد على هَذهِ الغَطرَسة الإسرائيليّة، وباتَت قِمّة مُتعَتهم إحصاء أعداد الصَّواريخ وهِي تَخْرُج مِثل “المردة” مِن تحت الأرض الطيّبة الولّادة المِعطاءَة باتِّجاه الأهداف الإسرائيليّة.. هذا شَعبٌ يُمَثِّل أُمّةً عريقةً، وعَقيدةً راسِخةً، وهَذهِ التَّضحِيات والبُطولات ليسَت غَريبَةً عليه، ولَن تَكون، وما هُوَ قادِمٌ أعْظَم.. والأيّام بَيْنَنَا.