بمناسبة اليوم العالمي لإلغاء العبودية، تساءل البعض عن أسس الأحكام التي صدرت مؤخرا في حق بعض من المتهمين بممارسة العبودية (ستة أشهر وسنتان مع وقف التنفيذ والتقادم في بعضها الآخر) في ضوء المقتضيات القانونية التي تصنف جرائم العبودية كجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم .ولعل وجاهة هذا التساؤل تجد مبرراتها أساسا في نص القانون: 031 – 2015 المجرم للعبودية الذي جاء واضحا وقاطعا لا يحتمل التأويل حين نص على عقوبة لا تقل عن عشر سنوات كحد أدنى في الجرائم المتعلقة بممارسة العبودية.
ومع أن هذه المقتضيات التشريعية المجرمة محددة، غير أن تلك الأحكام محل التساؤل لم تزد على أن نسفت أساس مشروعية التجريم والنظر في التكييف، وبذلك يبدو جليا للمهتم وللمتابع أن محاكم محاربة العبودية كرست نهجا من التعاطي مع الملفات المعروضة؛ لا هو يكرس مبدأ المشروعية ولا هو يحقق التوافق والتناغم رجوعا لمقتضيات السياق العام المفتقر لحل جمعي.
ومن النماذج الحية على هذه الوضعية ما كرسته الأحكام الصادرة عن مختلف المحاكم الوطنية من النزول عن الحد الأدنى للعقوبة (باستثناء محكمة نواذيبو) في تحد صارخ لمشمولات النظام العام الوطني، ناهيك عن محدودية التعويض المالي المحكوم به للضحايا، وانعدام انسيابية استخلاصه والطامة الكبرى في تعاطى محاكمنا مع هذه الملفات تبدو مخيفة من خلال ترك الحبل على الغارب لكل المشمولين في تلك الجرائم يسرحون ويمرحون رغم خطورة الأفعال المنسوبة إليهم (جرائم ضد الإنسانية) خلافا لأحكام القانون وروحه.
إن محددات هذا الأفق بمختلف عناصره المشار إليها سبب وجيه وداع ملح للانتقال بجرائم العبودية بالبلد من الدوائر القضائية الوطنية إلى الدوائر القضائية والحقوقية الإقليمية والدولية في حدود ضوابط الانسجام الوطني وضرورات اقتناص النقاط المضيئة. وقصارى ما ينشده هذا المسعى هو ضمان تطبيق القانون وتحقيق العدالة للضحايا الذين تدمي قصصهم القلوب وتقطع الأكباد في ظل غياب تام لأي تدخل حكومي أو غيره باستثناء ما تقوم به منظمة نجدة العبيد في إطار مشاريع مؤقتة بالتعاون مع شركاء دوليين.
ويمكن أن نستأنس بتجربة ناجحة شكلت سابقة في مجال محاربة العبودية، ويتعلق الأمر بملف سعيد ويركْـ المقدم أمام لجنة الخبراء بالإتحاد الإفريقي - وهو ثمرة تعاون وتكامل بين جهود نجدة العبيد وحركة إيرا -والذي صدر فيه القرار: 03/2017 بتاريخ: 15 دجمبر 2018 والقاضي بإدانة الحكومة الموريتانية وخاصة فيما يتعلق بعجز القضاء وتواطئه وتقاعسه عن حماية الضحايا وتحقيق العدالة لهم والحيلولة دون إفلات المجرمين من العقاب طبقا للقانون كما يلزمها باتخاذ التدابير العاجلة والمناسبة لمحاربة العبودية والتكفل بالضحايا وحمايتهم بالإضافة إلى إلزامها بتقديم تقرير مفصل عن الخطوات المتخذة تنفيذا لذلك القرار.
وكانت أبرز نتائج ذلك القرار اعتراف الحكومة الموريتانية في وثيقة موجهة إلى اللجنة مصدرة القرار بوجود العبودية عبر إقرارها بثبوت نشر العديد من الملفات أمام محاكم مختلفة. وتأسيسا على ذلك السياق فإن استمرار القضاء الموريتاني على هذه النهج - بغض النظر عن نجاح آلية التدويل من عدمه - غير مقبول، وهو مطالب باستخدام وتفعيل المتاح من الإجراءات.
وفِي انتظار ذلك يمكن توظيف جملة من الآليات الدولية والإقليمية (مجلس حقوق الإنسان) والإتحاد الإفريقي (لجنة الخبراء ومحكمة الإتحاد الإفريقي) وربما أيضا محكمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والتي سبق وأن أدانت دولة النيجر في قضية عبودية تقاعس القضاء النيجيري الداخلي عن معاقبة مرتكبيها وحماية الضحية بل وأبعد من ذلك، إذ يمكن اللجوء إلى محاكم بعض الدول التي أقرت مبدأ الاختصاص الدولي الشامل في بعض الجرائم ذات الطابع الخاص كالعبودية وجرائم التعذيب (بلجيكا وفرنسا).
ومن النماذج الشاهدة على ضرورة التدويل وقائع محاكمة النعمة الأخيرة (26 – 11 – 2018) وما سبقها من محاكمات ونحن ننظر إلى أولئك الضحايا المساكين أطفالا ونساء ورجالا وقد خابت آمالهم في تحقيق العدالة لهم بعد سنوات وسنوات من الانتظار دون أبسط لفتة من حكومات بلدهم التي دأبت على نكران وجود العبودية، أضف إلى ذلك ما ستبعث به تلك الصور من رسائل سلبية لمجتمع ما زلت العبودية والتراتبية المبنية على اللون والأصل أهم قواعد التعامل فيه.
والظاهر أن هواجسنا أصلا من إنشاء محاكم متخصصة في محاربة العبودية كانت في محلها، إذ لم تكن الغاية منها إلا مناورة هدفها النهائي هو ترسيخ وتجسيد وتكريس نكران العبودية ولكن هذه المرة عن طريق الأشكال والصيغ المبتكرة (القضاء)!!! بعد أن فشلت الخطابات السياسية في طمس معالم جريمة العبودية المتجذرة بشكلها التقليدي في كثير من مناطق الوطن. فكيف يمكننا التحدث عن محاكم متخصصة دون نظام قانوني خاص وقضاة متخصصين ومدربين على التصدي لنوازل العبودية والبت فيها بروح ونص القانون وليس بعقلية التبرير والإعذار وقبول قواعد التراتبية والتمايز والتفاضل بين الناس؟!!! زد على ذلك ما تركته أحاديةُ الخلفية الاجتماعية والثقافية لكل تشكيلات المحاكم حتى من غير القضاة المهنيين (المحلفين) - حسب تقديري الشخصي - من أثر واضح على فهم واستيعاب أبعاد الظاهرة ومعالجتها ليس فقط من منظور الأغلال والسلاسل والقهر المادي بل - وهو الأهم - من منظور القهر المعنوي المعزز بلبوس الدين والسيطرة الاقتصادية الكاملة...
ويبقى الآن وبعد كل هذا الفشل (الوطني) - الذي سيبقى وصمة عار تطارد صورة الوطن في محافل الأمم الراقية المتصالحة مع ماضيها المساندة لضحايا الظلم فيها، أن نذكر - ولا شك أنهم يعلمون (أولئك الحالمين، وأنا منهم) بدولة العدل والمساواة بأننا ما زلنا بعيدين جدا من تحقيق ذلك الحلم خاصة وأنه من الآن فصاعدا ستتضح وتكتمل صورة المشروع الذي يبتغيه بعض الراسمين لمستقبل وطننا والذي لن تكون – مطلقا - قيم المساواة والعيش المشترك أولوية بارزة فيه.
ولذلك، سيكون التحدي الأبرز أمام أصحاب المشروع البديل الذي نطمح له هو إعادة صياغة الأهداف الوطنية الجامعة التي تقدس مفهوم المواطنة ابتداء والذي إن تحقق سيؤسس بدوره، لا محالة، لشعور متزايد لدى كل أفراد الشعب بحب وطن يكفل المساواة والكرامة ويعلي من قيم العيش المشترك، ولن يتحقق ذلك إلا بمصالحة شجاعة تعترف بالماضي الأليم لضحايا الظلم وتحفظ حق الذاكرة والتعويض ومعاقبة مرتكبي التجاوزات، كما يرتب على عاتق الضحايا وذوي حقوقهم فضيلة العفو والتجاوز والصفح (لا تثريب عليكم...) فبذلك وحده تتحقق العدالة التي يطمئن الجميع لحكمها وينقاد له مختارا قبل تنفيذها جبرا.
وحاصل كل ما سبق أن الحالة الواقعية لتدويل ملف جرائم العبودية قائمة تماما مثل الحالة القانونية وبين الحالتين لن يضيع إعمال "المصلحة المرسلة" - على حد تعبير الماوردي في أحكامه السلطانية- القائمة على جلب المصالح ودرء المفاسد، فالانتقال إلى التدويل لاغُبار عليه بسبب ما أُحدِث من الظلم والخصام والجور، ومن تبدل أحوال الناس.