تُعد نظرية ابن خلدون حول العصبية، واحدةً من أهم النظريات التي حاولت بالتحليل المنطقي فهم قيام الدولة واضمحلالها بخراب العمران، وقد كانت أطروحة المفكر المغربي محمد عابد الجابري، عن "العصبية والدولة" إضافةً في غاية الأهمية في هذا الجانب، ونُريد هنا نماذج من التساؤلات التي بدأ بها الجابري أطروحته من قبيل "لماذا تتحول العصبية من مجرد رابطة سكولوجية واجتماعية إلى قوة للمواجهة والمطالبة، ومن ثم تأسيس الملك والدولة؟"و"لماذا تسقط الدولة بفساد عصبيتها؛ لتقوم عصبية جديدة بتأسيس دولة جديدة"؟
معروف أن العصبية بالمفهوم الخلدوني لاتنطبق في أحد خصائصها على الأنظمة التي ورَّثها الاستعمار والتي أنشأت شبكةً من الولاءات والمصالح المُشتركة، تسعى من خلالها إلى احتكار السلطة والعنف بحسب تعبير (ماكس فايبر).المشكلة أن هذا الاحتكار تطوّر بسرعة ليشمل معظم جوانب الحياة المختلفة، فأصبحت كل الخِدمات التي كانت من المفروض أن تظل عموميةً-كالتعليم والصحة- وغيرهما حِكراًعلى فئات قليلة داخل النظام، وهكذا زاحمت هذه الأنظمةُ الشعوبَ في لقمة عيشها، وفي علاقتها بالأرض حيث حوّلت مقابر أسلافها إلى عقار لشركات خاصة.
والواقع أن هذهالسياسات ساهمت في انتشار موجات من الشعور باليأس تحوّلت مع الوقت إلى سلوك يتحكم في غالبية أفراد الشعب الأمر الذي خلق وعياً جماعياً قائماً على اليأس والإحباط والحرمان.. إذن نحن أمام متتالية بدأت بنوعية الحكم وممارساته التي أنتجت بشكل مباشر رؤيةً مناقضةً لها سميتها بــ: "عصبيّة اليأس".
وحين نكون أمام عصبيتين إحداهما مؤسسة على المصالح المشتركة القائمة على احتكار العنف ورأس المال العام والخاص، والأخرى تعتمد على رصيدها من اليأس الذي أفْقدَها الأملَ في كل شيء، فهذا يعني بالضرورة حتمية الصدام المؤدي في الغالب إلى الخراب، لأن كل آليات الصراع يحكمها منطق "إما أن نكون أو لا نكون". المُكون الثالث الذي غاب عن النظرية الخلدونية هو دور العامل الخارجي الذي يُعد في الوقت الحالي جزءاً مهماً من تشكلات "العصبية الكونية" بغض النظر عن طبيعتها والتي قد يدفعها منطق المصالح لتكون متتاليةً ثالثة من صراع تريد حسمَه لصالح القوة التي ورَّثتهاالتَّحكُّمَ في رقباب البلاد والعباد، لتصبح أداتها في نهب ماتبقى من خيرات بلداننا، لذلك من المنطقي أن تدخل هذه المتتاليات الثلاث، المبرتبطة ببعضها من حيث سياقُ الأحداث الزمني، في دوامة من الخراب السّرمدي الذي تُنتجه آلياتُ الصّراع بشكل تلقائي ...