تشهد الساحة السياسية هذه الأيام حملة انتخابية سابقة لأوانها بكل ما في الكلمة من معنى؛ فالدعاية الموجهة ومهرجانات إعلان الترشح، والملصقات الإشهارية ولافتات الدعم والتأييد والمساندة، والزيارات الكرنفالية، واصطفاف أغلب مكونات الشعب ـ من مختلف أصناف الطيف السياسي، والموظفين والمثقفين والمدونين والغوغاء وزعماء القبائل، وعلماء وشيوخ مختلف الجماعات الدينية والطرق الصوفية والتيارات العلمانية ـ خلف مرشحهم المفترض؛ بإبراز كل فضائله ومؤهلاته ودماثة أخلاقه، وصفاء سريرته، وخبراتها المتراكمة، وبالمقابل التهجم على كل منافسيه، ونعتهم بشتى صنوف العيوب والنواقص؛ لَمَمًا كانت أو موبيقات، كلها أمور تجعلك تقف مشدوها أمام هذا الوضع الاستثنائي الخادع والمحيِّر.
لكن دعوني أقف خارج هذا الوضع الموبوء والمُعدي، ولو لبضع دقائق؛ كمراقب خارجي "حسب مصطلح الفيزياء الديناميكية" وإن كنت كغزية في غوايتها ورشدها، فلست إلا صنيع ثقافة الخنوع والخوف والسير وراء توجهات القبيلة والشيخ والحكومة والزعيم، دون بذل أبسط جهد في التفكير الجاد والممنهج بطريقة نقدية تستجلي بواطن الأمور، وتنزع الغطاء عن عورات القرارات والتوجهات والشعارات، التي صنعها أصحابها لتحفظ لهم مكتسباتهم وتُبقي لهم القطيع مغيبا لا حول له ولا قوة.
إن تلك الثقافة التي توارثتها الأجيال على هذه الربوع الحبيبة تجعلك ـ مهما كانت قناعاتك وثقافتك وشهاداتك وتخصصاتك ـ مجبرا على اختيار أحد التوجهات المرسومة لك سلفا، دون السماح لك بالوقوف على الحياد، أو اختيار نهج خارج الخيارات المتاحة، فهؤلاء المرشحون جميعهم دون استثناء، شئت أم أبيت مفروضون عليك رغما عن أنفك ، نظرا لأن قبيلتك قد قررت دعم فلان، أو أن تيارك السياسي الحزبي قد أعطى كلمته لعلان، أو أن مصالحك الضيقة والآنية تجبرك على أن تغرِّد داخل السرب المطيع، وتنادي بأعلى صوتك: سمعنا وأطعنا، وتعلن نبذك ورفضك الصارخ للعزف النجاز، حتى وإن بدا لك أكثر روعة وجمالا واتساقا وتناسقا مع ميولك ورغباتك، من عزف جوقة اللاهثين خلف دنيا يصوبونها أو وظيفة يمتطونها، أو مصلحة يحافظون عليها، أو شرٍ متوقعٍ يدفعونه عنهم، ولا يهمهم بعد ذلك مصير العباد ولا البلاد، فالمهم عندهم مصالحهم ومرشحهم وليذهب الوطن إلى الجحيم.
ستكتشف في خضم هذا الوضع الراقص والهمجي ولأول وهلة دون كبير عناء أنك مُسيَّرٌ في هذه البلاد غير مُخيَّر، وأن دعمك أو امتناعك عن الدعم سيان؛ فلتدعم من تشاء، ففي الأخير لن تصوت إلا لأحد البدائل الذين نُسِجتْ خيوط ترشحهم خلف غُرفٍ مغلقة، وعُرفَ الفائز منهم والمهزوم حتى قبل إعلان ترشحاتهم للعامة وإيداع ملفاتهم، أو قاطع إذا شئت فليست سياسة المقعد الفارغ بمجدية شيئا في دنيا السياسة والانتخاب.
ثم ما تلبث أن يصدمك هول الفاجعة وأنت ترى شعبا مورست عليه الخديعة مرارا لعقود من الزمن؛ نفس الخديعة ونفس السيناريوهات ونفس الوسائل، ونفس الشخوص، وبالتأكيد سيجني نفس النتائج، لكن لك الحق أن تتساءل: هل نحن شعب غبي إلى هذه الدرجة؟ والجواب بكل التأكيد لا، لكن فلسفة رجالات المنكب البرزخي تنبئك أنه لا وجه للمقارنة بين الخديعة الحلوة؛ المأمونة الجانب والمبسوطة اليد، مع الحقيقة المرة، الخطيرة العواقب والمغلولة اليد؛ فالمنفعة المتوقعة من وراء الخديعة، خير من الفاقة الواقعة مع الحقيقة الصادمة، هي إذا مجرد حرب نفوذ ومصالح ومنافع ، أما الوطن والتشبث به فتلك بضاعة بائرة، لم تعد لها سوق رائجة هذه الأيام.
ورغم أنني سأحتفظ لنفسي بقرار اقتراعي الذي لن يغيَّر بكل تأكيد أي شيء، ولن أعلن دعمي ومساندتي لأي من المرشحين، إلا لمن أبانت لي الأيام أن حسناته فاقت سيئاته في مجال تصحيح الأخطاء البنيوية، وسد الثغرات وتقويم المعوج، وعندها سيكون دعمي له سرا أحتفظ به لنفسي؛ عن طريق زيادة مخزونه الانتخابي بالرقم واحد، فكذلك لن أتطرق لأشخاص المرشحين ولا لمآخذي عليهم، بدءً من إعلان ترشحهم، وختما بفلسفاتهم، ومدى وفائهم لبرامج ومبادئ من يقفون خلف ترشيحهم ودعمهم، إن كانت هنالك مبادئ أو برامج.
لكنني سأفترض جدلا أن أحد المرشحين جمعته الصدفة الوقحة معي، في مكان لا يمكنه إنهاء اللقاء فيه، ولا سلطة له عليَّ فيه، وليكن بقعة لازمكانية في عالم تتخاطب فيه الأرواح وتتلاشى فيه الأجسام والألقاب والمناصب، وهاكم الحديث الذي سيدور بيني وبينه.
سيدي المرشح اسمح لي من فضلك أن أبث إليك همومي وأن أشاركك هواجسي وظنوني، وإن لم أهبك صوتي ودعمي، فأنا مواطن من عامة الشعب، وأدرى منك بشعاب البؤس والشقاء؛ التي يسكنها من بإمكانهم ترجيح كفة ميزانك في الانتخابات القادمة، فاتخذني دليلا في حارات وأزقة تلك الشعاب الموحشة، واسمع إلى كلامي فإنني لا أسألك عليه أجرا ولن تجدني ـ إن شاء الله ـ ببابك إذا قضى الله أن وقعت قرعة الرئاسة عليك وتم اختيارك رئيسا للبلاد والعباد في استحقاقات 2019 المقبلة، وخذ ما بدا لك من كلامي ودع عنك ما لا فائدة فيه.
حديثي لك عن ثلاثة قضايا جوهرية، إذا عملت عليها أوصلتك إلى قلوب العامة الذين سيعضُّون عليك بالنواجذ، ولن يستطيع أحد أن يزحزحك من مكان الرئاسة حتى تنهي الأجل الموسوم في الدستور بمأموريتين متتاليتين، ثم ستجد نفسك بعد ذلك في سويداء قلوبهم، ما دامت أنفاسهم تتلجلج بين أضلاعهم، وسيرفع التاريخ ذكرك ويعلي قدرك.
القضية الأولى: أن تنتهز فرصة بطاقات التعريف البيومترية والتي لا تزور وتكلف كل والٍ من ولاة الدولة بتعيين لجنة تقوم بإحصاء الأرامل واليتامى والمعدمين والضعفاء والمعوقين والمرضى الذين لا عائل لهم، داخل ولايته، وتُخرج لهم من ضرائب الشعب ما يسدُّ خلتهم وفاقتهم، وإن قلَّ، واختيار الأنسب لتلك المهمة أمانة وورعا، ثم محاسبتك له على عمله بنفسك أو بمن تسند له تلك المهمة ممن تثق فيهم ثقة عمياء، فلن يكون هنالك عدل ولا رخاء ولا نماء وطائفة من هذه الأمة تقضي الليالي ذوات العدد تتضور جوعا دون معين، وأنت تكنز الذهب والفضة في خزانة الدولة ومصرفها المركزي وإدارة ضرائبها وصناديق جماركها، فالله الله في ضعفاء شعبك فهم أول أولوياتك ومن سيسألك الله عن سد رمقهم قبل أي شيء آخر.
القضية الثانية: أن تأمر فور تسلمك مقاليد السلطة بتحسين وضع المعلمين والأساتذة والأطباء، فالعلم أولا والصحة ثانيا، فبدون الصحة والعلم ينعدم البناء والتطور والزراعة والصتاعة والتعليم والأمن والدفاع والتقدم والازدهار، وأول إصلاح يتوجب عليك الشروع فيه في مجال الصحة؛ سنُّ قوانين رادعة لمن يستجلب أدوية أو أغذية مزورة أو منتهية الصلاحية، ولا تقبل من السلطة التشريعية ممثلة في البرلمان بأقل من عقوبة الإعدام شنقا لمن يثبت تورطهم في مراحل جلب المزور وشرائه وبيعه ونقله والترويج له؛ مهما كان قربهم منك، ومهما كانت ميولهم السياسية ومكانتهم الاجتماعية ورتبهم الوظيفية، ثم فَعِّلْ مختبر مراقبة الأدوية والأغذية وادعمه بالخبرات والتكوينات والمعدات النوعية والجيدة، حتى يميِّز الخبيث من الطيب، ولتصدر قرارا بمجانية الحالات المستعجلة للضعفاء والمعدمين ومن اضطرهم المرض للمستشفى، وليس بحوزتهم ما ينفقون منه على علاجهم، أما في الشق التعليمي، فتطوير المناهج الدراسية وتفعيل مبدأ المكافئة والعقوبة، والرفع من قيمة المعلمين والأساتذة، ماديا ومعنويا، وتوفير الكتب والمستلزمات التعليمية، واستحداث جوائز تحفيزية، ومسابقات دورية؛ تتم برعايتكم السامية مباشرة، كلها أمور هامة ستحدث الفرق على الأمد المتوسط والبعيد.
القضية الثالثة والأخيرة: تشجيع الزراعة والصناعة والأمن والدفاع؛ حتى تكون هنالك خطة عشرية للاكتفاء في مجال الغذاء، فلا حياة لأمة تأكل من وراء حدودها، وكذلك تشجيع بعض الصناعات الضرورية والمهمة عن طريق تشجيع الاستثمار والإعفاء الضريبي لفترة زمنية معتبرة تقف فيها المصانع على قدميها، ومحاولة تطوير أساليب الأمن والدفاع؛ بالتكوين والتدريب والدعم اللوجستي والمادي للرفع من جاهزية الأمن والجيش لدرء كل الأخطار التي تواجه البلد داخليا وخارجيا.
ولست هنا ناسيا لباقي الجوانب التي يجب أن يطالها التطوير والتحسين والاهتمام لكن الأولويات في نظري ـ على الأقل ـ في المأمورية الأولى يجب أن تكون في هذه النواحي، والبقية تأتي لاحقا بعون الله وقدرته.
فإذا أخذت بنصائحي فستستفيد ويستفيد الوطن بأكمله، أما إذا أبقيت الأمور على ما كانت عليه، فصدقني سيلفظك الشعب وستأخذ مكانك الضيق في سلة مهملات التاريخ.
وانظر إلى وطنك بعين البصيرة قبل البصر، وإياك والسباحة ضد تيار مصالح شعبك وأولوياته، فإن ثورته عاصفةٌ؛ لا تبقي ولا تذر، والوقائع التاريخية تثبت بكل جلاء أنه لا جديد في الأحداث التاريخية، فقط هنالك نواميس وثوابت وقوانين تعيد نفسها على الدوام، بشكل مضطرد، دون أبسط تغيرات، وما يشهده الفضاء العربي والإقليمي بل والعالمي هذه الأيام من ثورات وسقوط حكام وتفتت دول، هي مجرد أحداث تكررت وتتكرر دون أن تُفهم أسبابها وحيثياتها، ويتم تحاشي نتائجها الكارثية على السلطة والمجتمع والدولة.