مساء الجمعة 22 / 5 / 2015 قررنا التوجه إلى قرية "تيفريت" لمعاينة "مكبها" الرهيب، وذلك تلبية لدعوة كريمة من لجنة الأزمة التي تنشط في القرية لمواجهة خطر "المكب"، والعمل على إبعاده عن القرية، وبإشراف من الناطق الرسمي باسم أهالي القرية، الأستاذ الإعلامي والأديب، محمد الأمجد ولد محمد الأمين.
انطلقنا في موكب من 4 سيارات تقل مجموعة من الصحفيين التابعين لمؤسسات ومواقع وصحف محلية، ومحامى القرية، وبعض من شبابها، و نشطاء في لجنة الأزمة الأهلية.
"تيفريت" قرية صغيرة، كان يفترض أن تكون جميلة ووادعة وهادئة، ببناياتها الأنيقة المتناثرة بين الكثبان، معانقة جنبات الطريق الذي كان ذات يوم طريق "أمل"، وهي من المداخل الرئيسية للعاصمة من الناحية الشرقية، لذلك تنتشر فيها نقاط تفتيش ومراقبة لحركة المسافرين والبضائع النشطة بين نواكشوط والنعمة، تابعة للدرك والشرطة والجمارك.
وفى الكلم 24 غربي القرية، يوجد منعرج معبد، يقود لمسافة أقل من 2كلم إلى "المكب" الرهيب الذي كان علينا أن نعاينه ـ ولأول مرة بالنسبة لى شخصيا ـ للوقوف عليه إذ ليس من رأى كمن سمع.
بوابة الجحيم
ل"المكب" الرهيب بوابة الواقف عندها لا يرى شيئا يوحى بجحيمية المكان، تلة رملية مسورة، تحيط بها بنايات متناثرة، وآليات معطلة، وحارس أشعث أغبر تلة رملية هي في الواقع قمة "جبل الجليد" إذ تخفى تحتها آلاف أطنان القمامة التي كانت "بيزورنو" تحفر لها و"تعالجها" في أعماق الأرض، ثم تغطيها إما بالحجارة، أو بأكياس الرمل.
توقفنا قليلا أمام البوابة التي يلفها صمت القبور، لأخذ الصور والاستماع لشروح يقدمها ـ من حين لآخرـ للصحفيين الأستاذ الأمجد، بالتناوب مع مرافقيه من شباب القرية.
تركنا البوابة التي ليست سوى "شجرة" تخفى "غابة" من القذارة والتلوث، وسرنا يمينا وهي على يسارنا بمحاذاة سور "المكب"، حيث وجدنا أنفسنا ـ ونحن نتجاوز مسافة قليلة ملاصقة للسورـ أمام جبل القمامة، وهذه المرة في الهواء الطلق، وحتى خارج حدود الحائط المسور ل"المكب"، فبعد رحيل "بيزورنو" لم يعد أحد يكلف نفسه عناء الحفر لهذه القاذورات، ف"الخلف" الحضري الأسوأ من "السلف" البيزورني يفرغ الحاويات والشاحنات على الأرض، وفى فضاء مفتوح، غير راع إلا ولا ذمة في بشر أو شجر أو حجر أو مدر.!!
وادى "الذباب"
منذ أن ولينا وجوهنا شطر "المكب" الرهيب والروائح الكريهة تزكم أنوفنا، رغم الكمامات الطبية التي زودنا بها شباب القرية، كيف لا ونحن نسير في فضاء مفتوح، يضج بآلاف أطنان القمامة صلبة ولزجة، وعوانا بين ذلك ..؟!!
لم تكن الرائحة التي تبعث على القرف مصدر الإزعاج الوحيد لنا، بل يبدو أن "الذباب" استقبلنا بحفاوة بالغة، ونحن ندخل "واديه" غير المقدس.
ذباب في كل مكان، على الرؤوس، وعلى الثياب، والمصورات، والأقلام، وأوراق الكتابة ، لدرجة أنه رافقنا في السيارة عند عودتنا، وكأنه يريد التأكد من أننا أصبحنا فعلا خارج "حوزته الترابية".
حاول أحد الصحفيين أخذ صورة ل"المكب" لكن جحافل الذباب حجبت عين العدسة، وكأنها تنفذ "فرمانا" حكوميا بمنع التصوير في هذه المنطقة ..!!
ذباب لا يعطيك فرصة للوقوف أو التفكير، فهو يرافقك مضايقا فوق الرأس، وعلى الثياب، وبينها، وفى الأفق من حولك.
ولا غرابة أن يكون للذباب واد، وقد تقاسمت "الذئاب" كل الوديان وبين "وادي الذباب" و "وادى الذئاب" قصة قرية تحتضر اختناقا كان اسمها "تيفريت".
بصمة الموت
لا يوحى سواد أشجار المنطقة، ولون حيواناتها وتربتها إلا بشيء واحد ،هو أن الموت مر من هنا ليغتال حياة كانت ناضرة قبل "المكب".
حتى العقارب، والأرانب ،وحيات الصحراء، هجرت هذا المكان ، وما عادت تطيق الحياة بجوار "مكب" جلب معه الموت الزؤام.
أما البشر فحدث عن حاله ولا حرج..!!
معاناة على مدار الساعة، فالنسيم هنا ليس نسيم "الصبا"، والوادي ليس "وادي العقيق" ولا هذا "عانز" ولا "الحطيم" ولا "الحجون"..!!
هنا لا يمكن ل"غيلان" ـ ولو استأصل حواس الشم والذوق والرؤية ـ أن يتغزل على "مي" أو يبحث عن أطلالها ومضارب قومها..!!
النسيم هنا به من القذارة ما يجعل استنشاقه نوعا نادرا من الانتحار، فمع كل هبة ريح تنتشر الروائح القذرة، ويكفهر الجو، أما عندما يتعرض "المكب" لحريق متعمد أو عرضي، فلا يكون أمام سكان دائرة قطرها من حوله 20 كلم فى كل اتجاه، إلا الهروب، حتى دون تحديد وجهة للهرب.!!
يحدثك السكان هنا عن القروح، والحساسيات، وأنواع الإكزيما، و أعراض التسمم، والربو، وضيق التنفس، وإصابات الجلد، والعيون، وجهاز التنفس، والإسهالات، أما الأورام الحميدة نادرا ،والخبيثة غالبا، والتشوهات الخلقية ،فقد تفشت بشكل غير مسبوق، منذ إنشاء "المكب" بين سكان القرية، والقرى المجاورة، و عابري السبيل في تلك الفجاج الملوثة.
ولم يسلم الحيوان، فملاك المنطقة يتحدثون عن نفوق مفاجئ وجماعي لعشرات رؤوس الماشية ، إضافة إلى حوادث الإجهاض، وتفشى الطفيليات، والقرح الجلدي، والعمى، وغير ذلك من الأذيات التي جعلت معظم أصحاب القطعان يهجرون المنطقة بقطعانهم، بحثا في الأرض عن منأى للكريم عن الأذى..!!
جف الضرع ويبس الزرع، وما عاد إنسان هذه المنطقة قادرا على البقاء فيها حتى مكرها، وكأن رسالة "المكب" ومن جاء به إلى هنا، هي أن يموت البشر، ويجف الشجر، ويسود الحجر، ويختفي المدر، هي إذن رسالة موت ولا شيء غير الموت..!!
الأبواب المغلقة
قبل حوالي 10 سنوات أقيم هذا "المكب" المرعب، وتحديدا منتصف العام 2004 ، وقيل يومها لسكان القرية إنه "مكب" تقني تتم فيه معالجة القمامة تحت الأرض، وتراعى فيه مساطر سلامة البيئة المحلية والوطنية، ببشرها وحيوانها وشجرها ومدرها، وأنه سيساهم في امتصاص بطالة شباب القرية، إلى غيرها من "العنتريات" التي كانت "باقة ورد" تخفى تحتها "جرعة السم"..!!
" لم نجد سوى الروائح والأمراض وسحب الدخان" يقول الأستاذ الأمجد الناطق باسم الأهالي بطريقته الساخرة، التي حاول بها مرات عديدة التخفيف عنا، ونحن نتجول في جنبات "المكب" المخيف.
ويواصل " طرقنا كل الأبواب ولجأنا أخيرا للقضاء ولدينا ملف موثق ومحام متعهد والتقينا بمسؤولى البيئة والصحة والمنتخبين المحليين ونظمنا عشرات الأنشطة هنا وفى العاصمة لكن من خلف الأبواب التي طرقناها كل تلك السنوات إما أنه لا يسمعنا أو أنه يرفض الاستماع لمأساتنا "
يضيف أحد شباب القرية تتمة لحديث الأمجد: " في فصل الأمطار تزيد معاناتنا بزيادة رطوبة المكب التي تستحث روائحه فتسد أفق كل القرى والحواضر المجاورة وبدائرة واسعة جدا وأحيانا نضطر للمبيت في العاصمة وترك منازلنا هنا خوفا على المسنين والمرضى والأطفال خاصة في ليالي الحرائق الغامضة التي تشب من حين لآخر وبشكل مفاجئ صباحا أو غبش الفجر أو مساء متأخرا في المكب لتحيل الأفق إلى جحيم لا صبر عليه ".
يعود الأمجد للحديث: " لم نترك بابا إلا وطرقناه جئنا للرئاسة والرئيس نفسه مر من هنا واستبشرنا خيرا بمروره لكنه صدمنا بقوله إنه لا خطورة للمكب صحيا وبيئيا واكتشفنا يومها أنه كان ضحية لخدعة إذ أن مرافقيه ومستشاريه وأعضاء حكومته أروه البوابة فقط ولم يلاحظ سوى الآليات والقمة الرملية ولم يتركوه يتجاوزها لرؤية الحقيقة أما الرائحة فإنها وصلت إليه يقينا ولا ندرى لماذا لم يسأل عن مصدرها فهي أقوى من أن تكون مجرد رائحة مألوفة و عابرة صعقنا لتعليق الرئيس لكننا لم نيأس ونواصل كفاحنا لغاية إزاحة هذا المكب عن مناخرنا وأعيننا وعن بيوتنا وحيواناتنا وبيئتنا والأمل قائم بأن يستمع لنا الرئيس مرة أخرى ويعاين مأساتنا ويتحرك لإنقاذنا من جحيم هذا المكب اللعين ويحتاج ذلك فقط لأن يقف الرئيس بنفسه على المكب ويتجاوز البوابة"
ويواصل الأمجد : "نحن لن نسكت وسنواصل طرق كل الأبواب وواثقون أنها ستفتح أمامنا يوما بقوة العدل والإنسانية والحق ليزول هذا المكب وتستعيد قريتنا وجهها الجميل وتدب الحياة من جديد في جنباتها ومكوناتها بشرا وحيوانا وشجرا"
دموع "الموءودة"
صورة كارثية يمكن لأي زائر ل"تيفريت" ملاحظتها
تربة سوداء متجهمة، وأشجار يغزوها السواد، وتهجرها النضارة، وحيوانات هزيلة مريضة، لا ضرع فيحلب ،ولا ظهر فيركب، أما البشر فمعاناتهم شاخصة مرضا وأرقا وبؤسا.
قرية ضاقت الأرض على أهلها بما رحبت ظلما وتهميشا، فلماذا يتم إعدام القرية "طمرا بالقمامة "..؟!!
ولمصلحة من يتم وأدها بهذه الطريقة الوحشية ..؟!!
ولماذا تظهر مجموعة نواكشوط بوجه "حضري" في العاصمة وبوجه "قذري" هنا خارج العاصمة..؟!!
وأين الأئمة والدعاة والمنتخبون والوجهاء والأطباء والإعلاميون والحقوقيون وأنصار البيئة من معاناة سكان هذه القرية..؟!!
إن الحكومة تقتل هذه القرية ببطئ، وسنكون جميعا شركاء في الجريمة إذا لم نفعل شيئا أي شيء من أجل هذه القرية وسكانها، الذين لا ذنب لهم سوى أنهم مواطنون موريتانيون، يحلمون ـ كغيرهم ـ بحياة كريمة في بلدة آمنة نقية الهواء، محمية البيئة، يتركها هذا الجيل ـ كما تسلمها من الجيل الذي قبله ـ أمانة طاهرة للأجيال القادمة .
حبيب الله ولد أحمد
لموقع "الوطن" ويومية "الفجر"