لقد أصبح الكثير منا يعتقد بأن العمل الخيري بصفة عامة، والإنفاق بصفة خاصة عبادة تخص الأغنياء دون الفقراء، ولتصحيح هذا الخطأ الشائع، فإليكم لقطتين سريعتين من سير بعض الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
اللقطة الأولى: سنأخذها من سيرة موسى عليه السلام. لقد جاء موسى إلى مدين وإلى بئرها وهو خائف يترقب، يعاني من الخوف والغربة ومن جوع شديد (لم يذق طعاما لسبعة أيام) تفسير القرطبي.. كانت هموم موسى عليه السلام في ذلك اليوم أشد وأقسى من هموم جموع الناس التي كانت عند البئر، ولكن همومه رغم قساوتها وشدتها لم تمنعه من البحث عن المهمومين والمستضعفين ومد يد العون لهم، وكأنه بذلك قد أراد أن يعقد صفقة مع رب العالمين (انشغلتُ بهموم بعض عبادك يا ربي وتركت لك همومي)، وهذه الصفقة لا يمكن ـ بأي حال من الأحوال ـ إلا وأن تكون صفقة رابحة في الدنيا وفي الآخرة. فماذا لو عقد كل مسلم فقير مع ربه صفقة من هذا النوع ؟
قال جل من قائل في سورة القصص ((وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) صدق الله العظيم.
اللقطة الثانية : من سيرة خاتم الأنبياء عليه أفضل الصلاة والسلام، فبعد نزول الوحي جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضي الله عنها وفؤاده يرجف، و قال لها (لقد خشيت على نفسي)، فأخذت خديجة رضي الله عنها تثبته وتقول : (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
إن ما قالته خديجة رضي الله عنها يلخص أهم أصناف العمل الخيري، ويؤكد بأن النبي صلي الله عليه وسلم ومن قبل نزول الوحي، كان مشغولا ـ رغم الفقر ـ بالعمل الخيري و بمد يد العون للمحتاجين.
لم يقتصر الإنفاق في أوقات الشدة والفقر على الأنبياء فقط، فالصحابة رضوان الله عنهم قدموا هم أيضا دروسا رائعة في الإنفاق في مثل تلك الأوقات، فهذا أحد فقراء الصحابة يبادر بالتصدق قبل أغنياء الصحابة، وهذا آخر يستدعي الضيوف إلى بيته رغم أنه لم يكن يملك من الطعام إلا ما يسد به رمق أبنائه، وهذه زينب بنت جحش رضي الله عنها، تعمل بيديها الشريفتين لكي تَكْسِبَ مالا تتصدق به على الفقراء .
لم يكن غريبا أن يُنافس فقراء الصحابة أغنياء الصحابة في الإنفاق، لأنهم كانوا يعلمون أن أعظم الصدقات أجرا، هي تلك التي يتصدق بها المتصدق وهو يخشى الفقر، فعن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ) متفق عليه.
إن الإنفاق ليس عبادة خاصة بالأغنياء، والفقير يمكنه أيضا أن ينفق في سبيل الله، ولا يعني ذلك أن العمل الخيري يقتصر فقط على الإنفاق، فديننا الإسلامي أدخل ثورة في مفهوم العمل الخيري، وجعله يتسع لكل ذي كبد رطب، وجعله يشمل كل ما يدخل السرور في النفس البشرية، سواء كان ذلك بشق تمرة، أو بابتسامة عابرة، أو بكلمة طيبة، أو حتى بنية صادقة.
وبالعودة إلى مجال الإنفاق، وكيف يمكن للفقراء أن يكونوا من المنفقين في سبيل الله، فسأقدم من خلال هذا المقال مقترحا بسيطا سهل التنفيذ، وقد اخترت له أن يكون تحت عنوان "ولو بشق تمرة".
الجهات الموجه إليها هذا المقترح: الشباب الفقراء والنساء الفقيرات. يمكن أن تتشكل مجوعات من 100 إلى 300 شخص في كل مجموعة، ويمكن أن يكون التعارف بين أعضاء هذه المجموعات من خلال العلاقات المباشرة (مجموعة تسكن في حي واحد أو تدرس في مدرسة واحدة) أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
تقوم كل مجموعة من هذه المجموعات برصد حالة أو حالات إنسانية صعبة في محيطها السكني : أسرة لديها مريض في حالة صعبة ولا تمتلك ما يكفي لعلاجه؛ أسرة لا تمتلك سكنا لائقا؛ أسرة يعاني كل أفرادها من البطالة؛ أسرة عليها ديون لا تستطيع سدادها، وهكذا..
بعد رصد الحالة أو الحالات الصعبة تتعهد المجموعة برفع المعاناة عن تلك الحالة، وذلك من خلال توفير العلاج إذا كانت الحالة تتعلق بمريض، أو بناء سكن إذا كانت الحالة تتعلق بأسرة بلا سكن، أو بتمويل مشروع صغير إذا كانت الحالة تتعلق بأسرة يعاني كل أفرادها من البطالة، أو بتسديد الديون إذا كانت الحالة تتعلق بأسرة تعاني من الديون، وهكذا.
مدة تنفيذ المشروع : شهر رمضان المبارك
كيفية التنفيذ : يتعهد كل عضو من أعضاء المجموعة بالتصدق يوميا بمبلغ زهيد (100 أوقية قديمة)، وذلك طيلة أيام الشهر الكريم، أي أنه سيتصدق خلال الشهر الكريم ب ثلاثة آلاف أوقية قديمة تقريبا، وهو ما يعني في الحصيلة النهائية بأن كل مجوعة ستجمع خلال شهر رمضان مبلغا يتراوح بين 300 ألف إلى 900 ألف أوقية قديمة. هذا المبلغ يكفي لتمويل مشروع صغير، أو لتشييد سكن من غرفة واحدة، أو لعلاج مريض، أو لسداد ديون أسرة فقيرة، وبذلك فسيجد كل عضو في هذه المجموعات بأنه من المنفقين في سبيل الله، وبأنه ـ ورغم تواضع ما أنفق ـ فقد ساهم في تمويل مشروع صغير، أو في توفير سكن، أو في علاج مريض، أو في سداد ديون أسرة فقيرة.
فلنبدأ من الآن، ولنكن من الفقراء المنفقين في سبيل الله.