مع قدوم رمضان وبدء صيامه، أمس الإثنين، انقلبت الحياة في العاصمة نواكشوط: هنا مطاعم مغلقة، وهذه شوارع خالية من المارة تعبث بها رياح البحر حاملة الغبار والأتربة وأكياس البلاستيك الفارغة، ومن فوق الكل شمس صحراوية حارة تجري لمستقر لها بعد يوم طويل.
كما هي الحال كل سنة، اقتحم شهر رمضان حياة الموريتانيين ليغير أنماطها وليقلبها رأساً على عقب لتصبح حياة تبتل وتعبد وهدوء كامل في النهار مع نشاط كبير في الليالي.
هذه السنة قدم شهر رمضان وبدأ صيامه أمس، والموريتانيون غارقون في أجواء السياسة وفي التحضيرات لمعركة الانتخابات الرئاسية التي يغلق يوم غد الأربعاء باب الترشح لها، والتي دعي الناخبون للتصويت فيها يوم الثاني والعشرين يونيو القادم.
وبما أن الموريتانيين يصومون في رمضان عن كل شيء عدا السياسة، فإنهم سيواصلون في رمضان هذه السنة شد الأحزمة استعداداً للدخول في معركة الانتخابات الرئاسية المنتظرة التي ستشهد العام المقبل مغادرة الرئيس الحالي لكرسي الحكم بما سينجم عن ذلك من تجاذبات قبل ذلك ومعه وبعده.
ويتزامن شهر رمضان هذا العام مع التحضير لمنعطف كبير في موريتانيا هو منعطف الانتخابات الرئاسية التي تتميز بعدم ترشح الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز لها، والتي تتنافس فيها إرادتان سياسيتان إحداهما إرادة استمرار النظام الحالي ويقودها الجنرال المتقاعد محمد ولد الغزواني، والأخرى إرادة تغيير النظام الحالي ويقودها مرشحون معارضون متعددون أبرزهم سيدي محمد ولد ببكر ومحمد ولد مولود.
ولشراسة المعركة الرئاسية المنتظرة، فإن السياسة هذا العام قد تزاحم فريضة الصيام، وهذا ما جعل الرئيس الموريتاني يدعو أمس في خطابه بمناسبة رمضان «للعمل على أن تترسخ، لدى الجميع، المعاني والقيم السامية التي يزخر بها هذا الشهر المبارك».
وتقسم التقاليد الموريتانية شهر رمضان إلى ثلاثة أسابيع يسمى أولها «أسبوع الخيل» لكونه يمر سريعاً غير منهك للصائمين، وبعد ذلك الأسبوع الثاني وهو الأسبوع المسمى «أسبوع الإبل»، وهو أكثر بطئاً وتثاقلاً، ثم يأتي آخر الشهر «أسبوع الحمير» المنهك للصائمين لطول أيامه.
عبر هذا، يكون شهر الصيام قد ألقى بأجوائه على موريتانيا ليحول ليل الحياة فيها إلى شبه نهار تنعقد فيه السهرات وجلسات الشاي، والنهار إلى شبه ليل حيث يأوي الصائمون للنوم معظم الوقت وينخفض النشاط لأدنى مستوياته حيث نقصت ساعات الدوام الرسمي.
بدا اليوم الأول من رمضان أمس الإثنين بوم نشاط كبير، فالجميع أقبل على أسواق التبضع لاقتناء مستهلكات الصيام، وانتظمت أمام البنوك طوابير الموظفين الذين يبحثون عن تقديم رواتب شهر سيحتاجون إليها بعد صرفها لمواجهة مصروفات عيد الفطر.
في شهر رمضان يتحول كل شيء إلى الدين والتدين، فالإذاعات والقنوات تتخلى عن برامجها الترفيهية وتستبدل بها قراءة القرآن والمواعظ وحلقات لاستضافة العلماء في برامج مباشرة مع المستمعين والمشاهدين.
وعكس النمط المعاشي العادي، يكون نهار رمضان سكوناً ولباساً وليل رمضان معاشاً، فتكثر المطاعم من وجباتها وتضاعف المخابز كميات خبزها وتطول أمامها طوابير «المستخبزين»، وتزدحم البقالات والمقاهي بالمشترين والساهرين.
تكون صلاة التراويح النشاط الليلي الكبير الذي يقبل عليه الجميع، وتبادل الزيارات وطلب المسامحة وصلة الرحم في الشهر الفضيل نشاط آخر هام تقوم به الأسر لتنظيف القلوب من الأحقاد.
وبخصوص الوجبات، فلم يكن الموريتانيون قبل عقدين من الزمن، حيث كانت حياة البداوة غالبة، يعرفون الأكلات المتنوعة المعروفة اليوم، فقد كانت المستهلكات في رمضان تقتصر على التمر والحليب الممزوج بالماء والسكر والمعروف محلياً بمسمى «الزريق»، إضافة لكاسات الشاي الأخضر التي يدمن عليها الجميع؛ وكانت الوجبة الرئيسية في رمضان هي وجبة العيش، وهي عصيدة تصنع من دقيق الدخن ويخلط عليها الحليب والملح والسكر، أما اليوم فقد تأثرت الموائد الموريتانية بالموائد المغربية وبما تعرضه القنوات التلفزية من وجبات وفنون طبخ.
وتتصدر الحريرة المغربية بمذاقها اللذيذ وجبات رمضان في غالبية الموائد الرمضانية على مستوى المدن، ويوفر مصدرو الخضراوات المغاربة للأسواق الموريتانية مستلزمات طبخ الحريرة من خضراوات وتوابل.
وتستلهم النساء الموريتانيات إعداد الوجبات مما تعرضه القنوات التلفزيونية ومنهن من تأخذ مقادير الوجبات وطرق إعدادها من تطبيق «يوتيوب».
وساهمت شبكات التواصل يتقدمها «واتساب»، في تبادل المعلومات حول الوجبات، حيث تنشط المجموعات الواتسابية في تبادل المقادير والصور عن الوجبات وعن أدوات المطبخ وفوائدها وأسعارها، وهو ما يسهل على الكثيرات منهن مشاوير التسوق في ليالي رمضان.
وسيكون لتطبيق «سناب» دوره الكبير حيث تتبادل ربات الأسر والفتيات، على السريع، صور وجبات الإفطار افتخاراً أحياناً وتقديماً لمعلومات عن المأكولات أحياناً أخرى.
ورغم ارتفاع معدل الفقر في موريتانيا (٪40)، فالوجبات الرمضانية مكلفة يبذل فيها المال بسخاء، فالأغنياء يبذخون والفقراء يتجاوزون طاقاتهم ويتحملون الديون، «فالمهم تقول ميمونة بنت سيدي (34 سنة، ربة أسرة) أن نفرح برمضان ورمضان كريم، كل الديون ستقضى ببركة الشهر العظيم».
في معين هذا الشهر الفاضل تنغمس موريتانيا حالياً لصقل أدران العراك السياسي المحتدم منذ أشهر تحضيراً لانتخابات 2019 الرئاسية.
وإذا كانت المعركة السياسية لن تحسم في شهر رمضان الحالي فإن هذا الشهر، على الأقل، قد يجعل الصائمين من صقور السياسة يضعون «أسلحتهم» أياماً قليلة، ضمن استراحة محارب، قبل أن يمتشقوها من جديد ضمن انتخابات يونيو التي ستكون قريبة من عيد الفطر، وقبل أن يكون المسموع هو قعقعة الحملات الانتخابية ومهرجاناتها.
«القدس العربي»