أجمل هديّة يُرسلها ترامب لخُصومه الإيرانيين إرسال مِئات الآلاف من الجُنود إلى الخليج.. لماذا؟ وما هِي الأسباب التي دفعت حاملة الطائرات “لينكولن” إلى الانسحاب والوقوف على بُعد 700 كم من الحُدود الإيرانيّة؟ وما هو تفسير صمت نِتنياهو هذه الأيّام؟
يخرج علينا المسؤولون في الإدارة الأمريكيّة بمُصطلحات تكشف عن حالة الارتباك التي يعيشونها حاليًّا في ظِل تعاطيهم مع الأزمة الإيرانيّة، وكانت آخِرها الفتوى التي أصدرها مايك بومبيو، وزير الخارجيّة، وقال فيها إنّ بلاده لا تُريد تغيير النّظام في طِهران، وأن الرئيس ترامب مُصمّم على تغيير نهجه فقط.
لا نعتقد أنّ أيُ من هذين الهدفين سيتحقّق، لأنّ الإدارة الأمريكيّة تخشى من الحرب أوّلًا، ولأنّ النظام الإيراني لن يُغيُر نهجه ثانيًا، لأنّ هذا التّغيير لو حدث سيعني نهايته ثالثًا، ولأنّ ترامب تاجر جبان ومُحترف الكذب رابعًا.
ما يجعلنا نصِل إلى هذه المُحصّلة، إدراك النّخبة الإيرانيّة الحاكِمة أنّ الرئيس الأمريكيّ ترامب الذي عارض حرب العِراق وطالب بسحب قوّاته من منطقة الشرق الأوسط، أجبن من أن يخوض حربًا غير مضمونة النّتائج ضد إيران، وينطبق عليه المثل الشّهير الذي يقول “أسمع جعجعةً ولا أرى طحنًا”.
نعم لا نُجادل مُطلقًا بأنّ أمريكا الدولة الأعظم في التّاريخ قادرة على تدمير أهداف في إيران، مثلما دمّرت العِراق، ولكنّها ستخرُج من أيّ حرب مُثخّنة بالجِراح، وربّما بدون سيقان، في وقتٍ تشهد فيها الساحة الدوليّة صُعود دول عُظمى باتت تُنافسها، ولذا هي بحاحة للحِفاظ على هيبتها، وترسانتها العسكريّة في أعلى جهوزيّتها، فلا العِراق اختفى عن الخريطة، ولا فيتنام، ولا أفغانستان.
أحيانًا تكون أسلحة الفُقراء على بدائيّتها، ونقصد بذلك عدم تطوّرها تكنولوجيًّا ورقميًّا، نعمة وليس نقمة، لأنه سيصعب على العدو كيفيّة التّعاطي معها بفاعليّة وكفاءة، فلا توجد أسلحة في العالم تستطيع التصدّي لقذائف الهاون مثلًا إذا ما انطلقت من مدافعها، خاصّةً إذا كان أصحابها يملكون إرادة قويّة، ويتحلّون بأعلى درجات الكرامة والوطنيّة، ومُستعدّون للشّهادة حِفاظًا عليها، وهذه لغة لا يعرفها ترامب ورهطه.
***
نشرح أكثر بعض البديهيُات ونقول إن الطائرات الحوثيّة “المُسيّرة” استطاعت تجاوز كل الرادارات السعوديّة الأكثر تطوّرًا في العالم، ووصلت إلى أهدافها غرب الرياض بسهولة ويسر، وأنجزت أهدافها بفاعليّة عالية أذهلت الجميع، لأنّها نتاج تكنولوجيا غير أمريكيّة أو غربيّة، ويصعُب فك شفرتها وطلاسمها بالتّالي، والشيء نفسه يُقال عن صواريخ حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” التي انطلقت من قطاع غزّة، وكسرت غرور بنيامين نِتنياهو وقببه الحديدية التي كلّف بناؤها عشرات المِليارات من الدولارات.
حاملة الطائرات الأمريكيّة إبراهام لينكولن التي أرسلها الرئيس الأمريكي ترامب إلى منطقة الخليج مُستعرضًا عضلاته العسكريّة انسحبت سريعًا، وباتت تُرابط على بعد 700 كيلومتر من السواحل الإيرانيّة البحريّة خوفًا من الصواريخ المُتطوّرة القادرة على تدميرها، وللعلم فقط، تبلغ تكاليف تجهيز إنتاجها أكثر من 30 مليار دولار على الأقل، وقيمة الصاروخ الذي من المُمكن أن يُدمُرها لا تزيد عن بضعة آلاف.
المعلومات المُتوفرّة لدينا من مصادر عسكريّة مَوثوقة تكشف عن قُدرات عسكريّة لإيران فاعلة جدًّا، كانت السّبب الرئيسي وراء تراجع حدّة اللّهجة التهديديّة الأمريكيّة:
أوّلًا: تطوير إيران صواريخ قصيرة وبعيدة المدى مُجنّحة، وأسرع من الصوت، قادرة على إصابة أهدافها بدقّةٍ مُتناهيةٍ، ووصلت كميّات كبيرة من هذه الصواريخ إلى حُلفاء أيران في العِراق ولبنان واليمن.
ثانيًا: امتلاك إيران أكثر من عشرة آلاف زورق سريع جدًّا، من ضمنها زوارق صغيرة جدًّا يُمكن أن تستخدم في عمليّات انتحاريّة ضِد السّفن الأمريكيُة، ومحطّات المياه في الخليج، هذا بالإضافة إلى صواريخ بحريّة مُتقدّمة جدًّا لم تُستخدم بعد، وسيكون استخدامها مُفاجأةً كُبرى.
ثالثُا: وجود خلايا عالية التّدريب من الضّفادع البشريّة يُمكن أن تُنفّذ عمليّات هُجوميّة ضِد العديد من ناقلات النفط، سواء من خلال غواصات مصنوعة محلّيًّا، أو من سُفن حربيّة، ولا نستبعِد أن تكون عمليّة ميناء الفجيرة أُولى تجاربها.
بنيامين نِتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي كان من أكثر قارعي طُبول الحرب ضِد إيران ضجيجًا، يلتزم الصّمت هذه الأيّام، ليس بسبب انشغاله في تشكيل الحُكومة الإسرائيليّة المُتعثّرة الولادة، ولا خوفًا من تأجيج الشارع العربي، وإنُما لأنّ كل تنبؤاته التي أطلقها أمام لجنة الدفاع في الكونغرس قبيل الحرب على العراق، وأبرز عناصرها أن منطقة الشرق الأوسط ستصبح أكثر استقرارًا بعد الإطاحة بنظام الرئيس الراحل صدام حسين الذي يطوّر أسلحة نووية قد ثبت عدم صحّتها وفداحة نتائجها، ويُدرك الجميع أن أي نبوءة مُماثلة ضد إيران ستُواجه بالسخرية، مُضافًا إلى ذلك معرفته ببعض تفاصيل الترسانة الإيرانيّة، وإدراكه أن نسبة كبيرة منها، سواء بشكل مباشر، أو عبر الحُلفاء، ستنهال على تل أبيب وحيفا ويافا وكُل المُدن الاستيطانيّة الأخرى.
الحديث المُتكرّر عن عزم الولايات المتحدة إرسال مئات الآلاف من الجنود الأمريكيين إلى المِنطقة لـ”ردع إيران” سينزل بردًا وسلامًا على قُلوب الإيرانيين وحُلفائهم، لأن هؤلاء سيكونون صيدًا ثمينًا لقوُاتهم وصواريخهم وطائراتهم المُسيّرة، وكلّما زاد عدد هذه القوّات كلّما زاد عدد الخسائر في صُفوفهم، ولنا في فيتنام والعِراق وأفغانستان بعض الأمثلة في هذا المِضمار.
***
قواعد اللّعبة باتت مكشوفة، والتّهديدات التي تصدر سواء في آطار الحرب النفسيّة، أو الحرب الفعليّة، باتت تُعطي نتائج عكسيّة، فكيف سيخوض ترامب حربًا إقليميّة عُظمى ضِد خصم صعب في وقتٍ تكشف آخر استطلاعات الرأي أنّ 60 بالمِئة من النّاخبين قالوا إنّه لا يستحق ولاية ثانية، ويُلغي الكونغرس قرارًا يُعطيه صلاحيّة آعلان الحرب دون اللّجوء إليه؟
حتى الحرب الاقتصاديّة التي يُهدّد ترامب باللّجوء إليها كبديل ضد إيران باتت مخاطرها أكبر بكثير لسبب بسيط، وهو أن من يستطيع ضرب الناقلات العملاقة، أمام سواحل الفجيرة في خليج عُمان، ومضخّات النفط لأنابيب النفط السعوديّة، قادرٌ على منع مُرور 18 مليون برميل إلى الأسواق العالميّة عبر مضيقيّ هرمز وباب المندب ومهما كان الثّمن، فلا نعتقد أنّ القِيادة الإيرانيّة ستقف مكتوفة الأيدي وشعبها يموت جُوعًا تحت الحِصار.
نختم بالقول إنّ إيران هي التي قد تُغيّر سُلوك النظام الأمريكي وليس العكس، مثلَما هدّد بومبيو.. فليس هُناك ما يُمكن أن تخسره، ولكن أمريكا وحُلفاءها لديهم الكثير الذي يُمكن أن يخسرونه، وخاصّةً هيبتهم وأمنهم واستقرارهم واقتصادهم، ولعلّ تصريح اللواء عبد الرحيم موسوي، القائد العام للجيش الإيراني، الذي قال فيه إنّ بلاده أبلغت جميع الوسطاء، العلنيّين والسريّين، بأنّها ترفُض التّفاوض إلا إذا غيّرت أمريكا سُلوكها.. هل وصَلت الرّسالة.. نأمَل ذلك.