لعله من المجمع عليه اليوم في موريتانيا أن أولى أولويات الإصلاح هي تحقيق الجودة في التعليم، والنزاهة والاستقلالية للقضاء وإقامة دولة القانون، وتكريس الوحدة والتماسك الاجتماعي والتوزيع العادل للثروة، غير أن هذه أهداف بعيدة المدى، ولا سبيل إليها بدون الأخذ بأسبابها والإيفاء بشروطها.
إن أول الشروط هو تولية قيادة تتحلى بالأخلاق والقيم العالية وتحمل إرادة سياسية ورؤية واضحة وعزيمة صادقة لسلوك هذا الطريق فورا وبدون أن تخسر أي لحظة… تحتاج موريتانيا نخبة حاكمة على مستوى المسؤولية، تجعل نصب أعينها الأهداف الوطنية الكبرى، نخبة تشتغل بمعالي الأمور وتربأ عن سفسافها.
بيد أن موريتانيا، وإن كانت بلدا غنيا بموارده، إلا أن شعبها يعاني العوز والفقر. ولعل هذه المفارقة تجد تفسيرها فيما نعانيه من هشاشة المؤسسات وضعف سيادة القانون، وتراجع القيم واستشراء الفساد، وانتهازية النخب وتنامي ظواهر الازدواجية والرياء في أوساطها.
وإن تعجب فعجبٌ تناقض نخبة تدعى الوطنية والتفاني في خدمة بلدها في حين تتركه فريسة النهب والاحتكار والبذخ، وكأنها غير مكترثة بقطاعات واسعة من شعبها ترزح تحت الجوع والجهل والمرض والفراغ والبطالة.
لذلك كله فإن إرساء وإنجاح مشروع تجديدي وطني سوف يتطلب تحولات عميقة تعالج تلك الاختلالات الكبيرة التى ترزح تحتها البلاد، وتتصدى لكل العوامل التي أوهنت إلى حد كبير من مصداقية الدولة والطبقة السياسية.
إن من أهم ما يتعين العكوف عليه هو التحسين من جودة المؤسسات العليا لتكتسب القوة والتوازن والنجاعة والمصداقية، ذلك أن الديمقراطية لا يمكن اختزالها في مجموعة من الأعراف أو «فولكلور» يتم بموجبه تنظيم انتخابات بشكل دوري في موريتانيا، مع منح بعض الحريات لوسائل الإعلام الخاصة ليقول الجميع ما يشاؤون ثم ينفض الجمع وتنتهي العملية… بل إن الديمقراطية تشكل بنية وفلسفة متسقة، ومنظومة متكاملة من القوانين والتنظيمات والقواعد، والمؤسسات المَهيبة والمحترمة من قِبل الجميع وخاصة من الجهاز التنفيذي.
إن بلدنا يستحق سلطة تنفيذية رشيدة ومتزنة تقف عند حدودها ولا تتعدى على صلاحيات السلطات الأخرى، كما يستأهل برلمانا قويا يراقب ويحاسب، بل ويقترح ويبادر، ولا يرضى أن يكون مجرد «غرفة تسجيل». وبالطبع، وقبل كل شيء، يستحق بلدنا قضاء مؤسسيا مستقلا، محايدا بالفعل، وقويا لا سلطان لأحد عليه.
وللمضي في هذا الطريق أقترح الاعتماد على خمس رافعات أساسية لتحسين جودة المؤسسات وإضفاء الأخلاق على الحياة العامة:
أولا- المراهنة على الموارد البشرية المخصصة للمؤسسات من أجل وضع حد لانعدام الفاعلية واستنزاف الموارد. إن جودة المؤسسات، التي هي شرط لا غنى عنه لتحقيق النهوض والإقلاع الاقتصادي، تتطلب بداهة، كفاءةَ وجودة أداء الموظفين. وهذا يقود بالطبع إلى ضرورة الاستثمار في رأس المال البشري من خلال التدريب والتسيير الفعال للموارد البشرية وإعطاء القيمة للكفاءة وحسن الأداء.
ثانيا- إضفاء الصبغة الأخلاقية على الحياة السياسية
لمعالجة الانحراف المشهود في منظومتنا القيمية، ومعالجة استسلام النخبة وميوعة تعهداتها ورخاوة التزامها، ليس أمامنا من خيار سوى المضي فى إعادة بناء وإرساء نظام القيم والإصرار على إعادة الاعتبار إليه، بما في ذلك مصداقية القول السياسي. وإن احترام الالتزامات والوفاء بالوعود والاستقامة والأمانة الفكرية تأتي في مقدمة الفضائل التي علينا أن نعيد الاعتبار إليها، في مقابل التملق المشين والتزلف العقيم.
تحتاج موريتانيا قيادة تعيد الاعتبار للمسؤولية والالتزام، ليتم توجيه الموارد وتعبئة الطاقات لتحقيق أهداف الإصلاح والبناء، وترقية جميع القطاعات والنهوض بها. ليس ذلك النمط من الحكام الذى يحيط نفسه بحاشية من المصفقين الذين لا هم لهم سوى تحقيق الامتيازات الشخصية أوالفئوية … ولا حيلة لهم أصلا ولا قدرة على اقتحام طريق النهوض وتجسيد الرؤية التي يحلم بها الموريتانيون.
تعزيز مصداقية الخطاب السياسي. ولتحقيق ذلك، تتحتم القطيعة مع اللغة الفضفاضة وأن نتخلص من «لغة الخشب» وشعاراتها الجوفاء. كما سيتوجب تجريم «الحنث باليمين» استهدافا للأكاذيب التي قد يقترفها المسؤولون العموميون خلال التصريحات الرسمية الموجهة للشعب أو لدى استجوابهم أمام النواب، أو في سياق الشهادة تحت اليمين.
حظر التزوير الانتخابي وتجريم الأفعال الصارخة المتعلقة به، مع وضع آليات لمنعه وكذلك ضمان حياد الإدارة. وبالطبع، يبقى كل هذا مرتبطا بشكل وثيق بعمل واستقلالية أجهزة العدالة المختلفة.
سن مستوى أدنى من الدراسة لقبول الترشح للمناصب الانتخابية. إذ يجب أن يكون لممثلينا من المنتخبين فهمٌ جيد لأدوارهم المنوطة بهم، وأن يحملوا فهما مشتركا ورؤية واضحة ومتناسقة عن مفاهيم المساواة والحرية والقانون والعدالة. يجب أن تكون هنالك أرضية مشترك ومنطق يحكم الخطاب والنقاش السياسي.
تنظيم دورات لصالح المنتخبين لتعلم اللغات الوطنية في الجمعية الوطنية وفي المجالس الجهوية، مع إلزامية التسجيل على كل منتخَب ليتعلم على الأقل إحدى اللغات الوطنية يختارها، غير لغته الأم. وبذلك يقدمون المثال ويجسدون بعضا من مقومات الوحدة الوطنية.
احتواء القبلية والحد من تأثير الانتماءات الفرعية المنافسة للمواطنة (الجهوية، القبلية، الخ) : وطبعا يتم ذلك عن طريق التعليم ومن خلال حملات التوعية والتثقيف والتحسيس التي ينبغي إطلاقها فى جميع المناطق، بما في ذلك المناطق الريفية.
ثالثا- إنشاء مرصد مستقل يراقب فصل السلطات. على أن تناضل هذه المبادرة المدنية وتراقب وتطالب بمزيد الشفافية في تحقيق الفصل بين السلطات وتجسيد الوضوح في اختصاصات مختلف المؤسسات، لمنع التداخل والتعدي على صلاحيات بعضها البعض.
على أن ينشر هذا المرصد تقريرا سنويا عن «حالة فصل السلطات وجودة المؤسسات» في البلد.
رابعا – المحاربة الفعالة للفساد والرشوة وجعلها دعامة أساسية لتطوير وتجديد العقد الاجتماعي، ويتطلب ذلك:
• تعزيز هيئات الرقابة والتفتيش وضمان استقلالها كي تتمكن من تنشيط عملها، ومن أجل وضع حد للإفلات من العقاب. وإطلاق عملية تحت اسم «اليد النظيفة»، إيذانا بمكافحة جدية صادقة للفساد والرشوة.
على أن يتم إطلاق هذه العملية بشكل عاجل وتضرب بقوة لإنجاز التنظيف الضروري، كي ننطلق من جديد على أسس سليمة.
• تعليق لمدة 5 سنوات «لصفقات التراضي»، والتي سيتم حظرها بشكل صارم بالنسبة للعقود التي تزيد قيمتها عن سقف يتم تحديده.
3 – دعم المنظمات غير الحكومية ومبادرات المجتمع المدني المناضلة ضد الفساد وتخويلها إمكانية رفع دعاوى وتشكيل طرف مدني أمام المحاكم ضد كل الجرائم المتعلقة بالرشوة.
• محاربة المحسوبية والمتاجرة بالنفوذ، من خلال ضمان الشفافية التامة في اكتتاب موظفي الدولة عن طريق مسابقات نزيهة لا يمكن الاعتراض عليها، كما يتحتم أن يستند تقدّم الموظفين في وظائفهم إلى الجدارة وجودة الأداء.
وستكون الشفافية نفسها مطلوبةً أيضا فيما يخص إرساء الصفقات العمومية ومنح العقود (فى تطبيق أكثر صرامة لإجراءات المناقصة).
خامسا- الاستعانة بالتقنيات الرقمية الجديدة لتطوير الإدارة والتخفيف من بطئها. علينا أن لا نتردد في اعتماد الوسائل العصرية لـ «الحكومة الإلكترونية»، والتي من شأنها أن تقرب المسافة بينها وبين المواطن، تسريعا للمعاملات الإدارية وتسهيلا لمعالجة شكاوى المواطنين وتحسينا للأداء بشكل عام.
وختاما، يتطلع الموريتانيون إلى مرحلة جديدة تسود فيها دولة القانون بفضل قضاء حيادي عادل، ويتقدم فيها البلد نحو التنمية والرخاء من خلال اقتصاد منتج يدمج الشباب ويتيح تمكين المرأة، وتتحقق فيها العدالة الاجتماعية بفضل التوزيع العادل والحماية الاجتماعية للفئات المهمشة، وجبر المظالم من أجل رأب الشرخ الاجتماعي. كل ذلك مع التطوير المستمر بفضل الاستثمار فى الرأسمال البشري من خلال التعليم ذي الجودة، والرعاية الصحية للجميع وإيلاء الشباب مكانتهم.
غير أن فتح مثل تلك المرحلة، سيتطلب اقتحام عقبة كأداء، وذلك فورا مع بدء مأمورية الرئيس المنتخب. سيكون على الرئيس الجديد، إن هو أراد الوفاء بالتزاماته وتحقيق تطلعات الموريتانيين، أن يقتحم العقبة ولا يرتهن لحاشية التملق والفساد.
وسيتطلب اقتحام العقبة، فك المؤسسات القائمة مما يكبلها من أغلال وينهكها من رداءة وينخرها من فساد، ومن كل ما يديرها في حلقة مفرغة من تداخل وفوضى. فلا أقل من أن يكون رئيسنا الجديد ساعيا للإصلاح والتطهير من الفساد على قدر يضاهي رئيس تنزانيا ماغوفولي، ولا أقل أن يحمل طموحا ورؤية والتزاما وجدية فى العمل والبناء يضاهي بول كاغامي في روندا التي تحولت في فترة وجيزة إلى نموذج افريقي يشار إليه بالبنان.
نعم سيتعين على الرئيس الجديد أن يقتحم العقبات، لكن عليه أن يستعين بأعوان أقوياء لا بمثبطين ضعفاء، وأن يحيط نفسه بنخبة مختارة ممن يحملون هذا الهم بصدق وإخلاص ويتمتعون بالكفاءة وقوة الالتزام وروح التضحية. عند ذلك سيؤمن الجميع بالمسار الجديد، وسيصبح وضع الاستراتيجيات والسياسات مجديا، وسينبعث الأمل الخلاق والاعتزاز بالانتماء، وسيمكن تركيز الطاقات للانطلاق في عمل شاق ودؤوب، غير أنه مصيري، لتحقيق الأولويات الوطنية الكبرى.
مهندس واستشاري موريتاني مقيم في باريس