في ما كانت وفود رفيعة المستوى من مختلف أنحاء العالم تحضر أول تبادل سلمي للسلطة بين رئيسين موريتانيين منتخبين في العاصمة نواكشوط في 1 أغسطس/آب الحالي، كان يمكن ملاحظة حضور اثنين من المسؤولين بالتحديد، تأتي مشاركتهما في إطار صراع عالمي حول النفوذ، في أرض بعيدة ومختلفة، يحتاج كل منهما فيها إلى مترجم فوري، إذ تُعتبر اللغة العربية اللغة الرسمية في موريتانيا والفرنسية هي اللغة الثانية. كان واضحاً أن كلاً من نائب رئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني وانغ دونغ مينغ من جهة، وكبير مستشاري الطاقة في مؤسسة الاستثمار الخاص لما وراء البحار التابعة للبيت الأبيض جون ديفر ألكساندر الثالث من جهة أخرى، لا يفقهان كثيراً في السياسة الداخلية لهذا البلد المعروف بأرض المليون شاعر وأرض الرمال المتحركة، لكنهما يعتمدان على ترسانة من الوثائق التي تشير إلى أن موريتانيا تعتبر الجسر الحقيقي بين أفريقيا والعالم العربي، وأنها نقطة استراتيجية للنفوذ العالمي في هذه المنطقة.
وقبل العودة لبلاده دشن ألكساندر الثالث مركزاً لتدريب رجال الأعمال الموريتانيين، تابعا لمنتدى الأعمال الأميركي-الموريتاني، وذلك في إطار تعزيز الشراكة التجارية بين نواكشوط وواشنطن من أجل مضاعفة التجارة البينية وتعريف الشركات الأميركية بفرص الاستثمار الموجودة في موريتانيا. وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في العام 2018 نحو 60 مليون دولار أميركي، فيما بلغت صادرات موريتانيا إلى الولايات المتحدة نحو مليون دولار أميركي. على الجانب الآخر، حرص وانغ دونغ مينغ على لقاء الرئيس الموريتاني المنتخب محمد ولد الغزواني في اجتماع مغلق في القصر الرئاسي، أكد بعده أهمية تعزيز التعاون بين موريتانيا والصين، وحرص الأخيرة على "تطوير العلاقات العريقة والتاريخية" بين البلدين.
"
الحلم الصيني في موريتانيا يعتمد على سياسات مرتبطة بالعمال والمزارعين والطلاب
"
وفي البلد الذي يقع على مفترق طرق بين أفريقيا والعالم العربي، يجد الصراع الأميركي الصينيعلى النفوذ مساحة شاسعة للتمدد، فموريتانيا التي استقلت عن فرنسا في العام 1960 يبدو أنها تتجه للخروج شيئاً فشيئاً من قبضة باريس، مشرعة أبوابها أمام سياسات واشنطن وبكين، في محاولة لاستعادة مركزها الأفريقي الذي كسبته في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عندما كان صراع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا على أشده. ففي سياسة عالمية يقودها أكثر من قطب، تجد البلدان التي تقع على مفترق طريق سياسي وجغرافي وتاريخي فرصتها لجذب الاستثمار والتطلع للقيام بأدوار سياسية بدعم من القوى الكبرى.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عرّف السفير الأميركي لدى موريتانيا مايكل دودمان علاقات بلاده مع نواكشوط بأنها تقوم على ثلاث دعائم أساسية: الاقتصاد والأمن وحقوق الإنسان. وهي ملفات طبعت اهتمام واشنطن بموريتانيا بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 لتشير إلى اهتمام جديد بـ"المنكب البرزخي" كما يحلو لبعض كتّاب موريتانيا تسميتها. وفي مايو/أيار 2017 أعلن السفير الصيني في موريتانيا تشانغ جيان قوه، في مقال لمناسبة زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي، إلى موريتانيا، إدراج منطقة الاقتصاد البحري الصينية الموريتانية جنوب نواكشوط في بنك المشاريع لبناء المشروع الصيني العملاق "الحزام والطريق"، واستثمار شركة الطرق والجسور الصينية 380 مليون دولار لتعزيز التنمية البحرية المشتركة.
في حرب النفوذ بين واشنطن وبكين، تتجلى الأيديولوجيا السياسية، مع فارق كبير في الطرح. فالحلم الصيني في موريتانيا يعتمد على سياسات أكثر ارتباطاً بالعمال والمزارعين والطلاب، فيما تميل واشطن في طرحها إلى التسلح وبناء طبقة من رجال الأعمال وتوطين إيراداتها في السوق الموريتانية، إضافة إلى التركيز على ملفات حقوق الإنسان عبر شبكات المجتمع المدني والمنظمات الدولية. اختلاف الطرح الاستراتيجي يعطي إشارة، للوهلة الأولى، إلى أن خطوط الاستثمار بين البلدين لا تتقاطع في موريتانيا، لكن الأمر خلاف ذلك.
صراع على المياه والغاز
في موريتانيا يمكن القول إنه "في كل كيلومتر يوجد مشروع صيني"، فيما يبدو التحرك الأميركي أقل انتشاراً أفقياً وأكثر تركيزاً في مراكز القرار ومفاصل السلطة والتعاون العسكري ودولة القانون. لكن التنافس على الأرض يفوقه بمرات تنافس محموم في المياه، إذ يتصارع الطرفان على الثروات في باطن المياه، مقابل تراجع النفوذ الفرنسي، إذ تبدو باريس أقل قدرة على التحرك في هذا الصراع. وتنفرد الصين بالثروة السمكية، فيما تهيمن الولايات المتحدة على الغاز، في توازن للقوى تراقبه الحكومة بكثير من الحذر. وتمتد الشواطئ الموريتانية على طول 755 كيلومتراً، وهي أكبر مصدر عربي للسمك، وواحدة من الدول الأغنى بأنواع الأسماك التي تصل إلى 300، منها 170 نوعاً قابلاً للتسويق عالمياً. وتجاوزت صادرات البلاد من الثروة السمكية 900 مليون دولار أميركي في 2018.
ومن بين أكبر الاستثمارات في مجال الصيد استثمارات شركة "هوندونك" الصينية بسقف يصل إلى 100 مليون دولار، وفق اتفاقية موقّعة مع وزارة الصيد والاقتصاد البحري يمتد العمل بها لمدة 25 سنة، لتهيمن بذلك على قطاع الصيد من دون منافس محلي أو أجنبي. كما تنشر الصين آلاف الشركات الصغيرة في موريتانيا، متخصصة في الإنشاءات الكبرى وأعمال البناء والاستيراد والتصدير والخدمات اللوجستية، فضلاً عن دعم كامل من النظام الصيني للبنية التحتية الموريتانية وبناء المنشآت الحكومية وتخصيص بعثات طبية، وهو تقليد طبع العلاقات الموريتانية الصينية منذ سبعينيات القرن الماضي، فأغلب مقرات صناعة القرار في البلاد تم بناؤها في إطار علاقات التعاون مع الصين.
على الجانب الآخر تهتم الولايات المتحدة بالثروات الموريتانية المكتشفة حديثاً في مجال الغاز، خصوصاً أن اكتشاف حقل غاز تورتو تم من قِبل الشركة الأميركية "كوزموس"، إلى جانب الاتفاق الذي تم توقيعه، أواخر العام الماضي، بين موريتانيا والسنغال، والذي مهد الطريق للمضي قدماً في المشروع. وبسبب هذا الاكتشاف، تبحث حالياً أكبر شركات النفط العالمية، بينها "إكسون موبيل" الأميركية، عن حقول نفط وغاز إضافية في المياه الموريتانية. وتبدأ الصادرات من حقل غاز تورتو في العام 2022، وهو ما يُتوقع أنه سيحسن وضع البلد الذي لا يزال يعاني من تبعات جفاف مدمر ضرب البلاد في سبعينيات القرن الماضي. والولايات المتحدة تدرك جيداً أن تطوير العلاقات مع موريتانيا له علاقة بالأمن والاستقرار مع تدفق ثروة الغاز، لذلك استثمرت خلال السنوات العشر الماضية في ملف الأمن. وأعلنت واشنطن أخيراً تخصيص مبلغ 110 ملايين دولار أميركي كمساهمة في تمويل قوة مكافحة الإرهاب، ودعم مختلف الكتائب المشكّلة لها. وكانت موريتانيا استضافت على أراضيها جانباً من مناورات "فلينتلوك 2019"، وهي أكبر وأهم مناورات لمكافحة الإرهاب تنظمها الولايات المتحدة في القارة الأفريقية.
صراع ثقافي
تتمتع الصين بنقطة قوة في موريتانيا ترتبط بكونها ظلت قريبة من الموريتانيين وتعمل بصمت، كما أنها احتفظت تاريخياً بعلاقة جيدة مع السلطات، ما أكسبها موقعاً سياسياً بالغ الأهمية. ولا يحتفظ الموريتانيون بمواقف صدامية مع سياسة الصين، بل إن صورة بكين مليئة بالمساعدات ومد يد العون في الأوقات العصيبة. كما تستفيد الصين من العداء الثقافي للنموذج الأميركي، خصوصاً مع الحروب التي شنّتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وصورة الهيمنة الأميركية والموقف من فلسطين، وهي صورة طالما دفعت الموريتانيين لإحراق العلم الأميركي. في المقابل، فإن الولايات المتحدة تمتلك نقاط قوة في الصراع، على رأسها قوة الدعاية الأميركية وانفتاح الموريتانيين على اللغة الإنكليزية وعلى الفن والثقافة الأميركيين، بالإضافة الى لغة الاقتصاد التي تشكل أولوية في خيارات الشباب الموريتاني. وما يعرفه الموريتانيون عن الولايات المتحدة كثير مقارنة بما يعرفونه عن الصين، وهذه أيضاً نقطة دعم لتوسع النفوذ الأميركي.
وفي العقد الأخير من الزمن، انتشرت المحلات الصينية بشكل غير مسبوق في نواكشوط وكبريات المدن، سرعان ما قابلها توسع في محلات بيع الخردة المستوردة من الولايات المتحدة. وأينما ارتفع علم الولايات المتحدة أو الصين على الأراضي الموريتانية، يمكن ملاحظة الصراع أيضاً. وفي 9 يونيو/حزيران 2011، أعلنت الصين افتتاح أكبر سفارة في العاصمة الموريتانية، ما دفع الولايات المتحدة للشروع في بناء سفارة أكبر في نواكشوط وترك مقرها السابق الذي كان يقع في منطقة قديمة لا تبعد كثيراً عن القصر الرئاسي، لتعلن عن افتتاح المقر الجديد في أكتوبر/تشرين الأول 2017. واليوم كمؤشر على نفوذ البلدين، يُعتبر مقرا سفارتي الصين وأميركا أكبر مقرين لبعثات دبلوماسية، ما يوحي أحياناً بأن كلا منهما مقر لأكثر من بعثة دبلوماسية، لتصبح موريتانيا أرضاً لصراع نفوذ وتوسع يشمل كامل القارة الأفريقية.