مرة أخرى تعيد القمامة احتلالها للعاصمة نواكشوط، ومرة أخرى يتجدد طرح الأسئلة القديمة: إلى متى ستبقى العاصمة نواكشوط محتلة من طرف القمامة؟ وإلى متى سنظل حكومة وشعبا عاجزين عن الدفاع عن العاصمة نواكشوط وعن حمايتها من جبال القمامة الزاحفة؟ وإلى متى سيظل سكان العاصمة نواكشوط يقبلون بالعيش في مدينة من قمامة؟
المقلق في الأمر هو أننا على المستوى الشعبي لم نعد ننزعج من العيش وسط القمامة، وإن انزعجنا فإننا نكتم ذلك الانزعاج. أما على المستوى الرسمي فمن الملاحظ بأن الجهات الرسمية قد تخلت تماما عن مهمة تنظيف العاصمة، ولم تعد تنشغل بها إلا في حالات نادرة جدا، وفي أماكن محددة، وعندما تكون هناك استضافة لرؤساء ووفود دول شقيقة وصديقة كما حدث خلال القمتين العربية والإفريقية.
فإلى متى ستبقى عاصمتنا "الفتية" بهذا المنظر المقزز؟ وإلى متى ستبقى الأماكن الحيوية فيها محتلة من طرف تلال القمامة وجبالها؟
يبدو أنه قد قُدِّر علينا أن نعيش في عاصمة من قمامة، ويبدو أنه لا شيئ سيتغير في هذه العاصمة، ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فإنه سيبقى من حقنا أن نحلم بالعيش في عاصمة نظيفة، ولتحويل هذا الحلم المشروع إلى حقيقة على أرض الواقع فإن ذلك سيتطلب منا أن نأخذ ثلاثة أمور بعين الاعتبار:
أولها : العمل على خلق استياء عارم من انتشار القمامة
إنه لن يكون بإمكاننا أن نجعل من عاصمتنا عاصمة نظيفة في ظل التعايش وهذه الألفة التي أصبحت تحكم علاقتنا مع القمامة، فهذه الألفة جعلت من انتشار القمامة في شوارع عاصمتنا وأمام مرافقها العامة أمرا عاديا لا يستحق أي استنكار . إن القضاء على أي ظاهرة سيئة يتطلب أولا ـ ومن قبل أي شيء آخر ـ خلق استياء قوي وواسع من الظاهرة السيئة التي نريد القضاء عليها، وإن أي جهد نبذله للقضاء على تلك الظاهرة السيئة سيبقى مجرد عمل عبثي ما لم يسبقه خلق مزاج عام مستاء من الظاهرة السيئة التي نريد القضاء عيها.
ثانيها: أن نتذكر دائما بأن من أهم العوائق التي تقف في وجه تنظيف العاصمة سلوك وعقلية المواطن الموريتاني، فهذا المواطن قد نشاهده وهو يحمل القمامة من منزله، ويقطع بها مسافة قد لا تكون قصيرة إلى الحاوية المخصصة لها، ولكنه يفاجئنا من بعد ذلك ـ ولأسباب محيرة ـ برمي القمامة خارج الحاوية الفارغة بدلا من رميها داخلها، ليأتي من بعده آخر ويتصرف نفس التصرف الغريب، ثم يأتي ثالث ورابع إلى أن يصبح الوصول إلى الحاوية في غاية الصعوبة، حتى بالنسبة لمن يريد فعلا أن يرمي القمامة داخل الحاوية. إن هذا السلوك لغريب حقا، وإنه لمن الأمور التي تعيق تنظيف العاصمة، وإن من تلك المسلكيات الغريبة للمواطن الموريتاني، هو أنه يمكن لأي واحد منا أن يرمي جيفة حمار على شارع عام ومع ذلك فإنه لن يجد من يلومه على ذلك الفعل، حتى من بين تلك الأسر التي تقع منازلها بجوار ذلك الشارع. ويمكن لتلك الجيفة أن تتحلل دون أن تجد من يبادر بإزاحتها من أصحاب المنازل المجاورة رغم أن رائحتها النتنة ستؤذي الجميع. إن هذه المسلكيات الغريبة والمعيقة لأي عملية تنظيف علينا أن نستحضرها دائما عند التفكير في وضع أي خطة لتنظيف العاصمة.
ثالثها : علينا أن نتذكر دائما بأن إعادة نفس الأساليب ستؤدي حتما إلى نفس النتائج
إن هناك جملة من الأساليب التي كنا قد استخدمناها في أوقات سابقة لتنظيف العاصمة نواكشوط لم تأت بأي نتيجة إيجابية، علينا أن نتوقف عن تكرارها، ومن هذه الأساليب التعاقد مع شركات أجنبية لتنظيف العاصمة، والتعاقد مع شركات خاصة لتنظيف العاصمة كما هو قائم الآن، وكذلك الإعلان عن انطلاق حملات موسمية، كالحملة التي قادهما الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز من مقاطعة تفرق زينة في يوم 29 ـ 08 ـ 2012، وكتلك التي قادها من بعد ذلك بسنتين من مقاطعة الميناء في يوم 25 ـ 10 ـ 2014، والتي حملت شعار : الحملة الوطنية لتنظيف العاصمة، وقد شاركت فيها كل الوزارات والمؤسسات العامة والكثير من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات القطاع الخاص ومع ذلك فإن تلك الحملة لم تأت بأي نتيجة تذكر.
إنه علينا إذا ما أردنا حقا أن ننظف العاصمة نواكشوط أن نفكر من خارج الصندوق، وأن نبحث عن أساليب جديدة لم يتم تجريبها من قبل.
إن هناك مقترحا كنتُ قد تقدمتُ به إلى السلطات المعنية منذ ما يزيد على عقد من الزمن، وقد أعدتُ تقديمه من بعد ذلك، ولقد قررتُ اليوم ـ وبعد أن تراكمت القمامة من جديد ـ أن أعيد تقديمه، وذلك بعد أن اخترتُ له عنوانا على طريقة عناوين بعض الكتب التي يراد تسويقها، ككتاب تعلم الانجليزية في عشرة أيام، وكتاب كيف تصبح مليونيرا في سبعة أيام؟
إن هذا المقترح الذي يهدف إلى تنظيف العاصمة نواكشوط في فترة وجيزة، وقد لا تكون بالضرورة عشرة أيام، فالتحديد هنا تم استخدامه للإثارة فقط، سيعمل على تحقيق هذا الهدف من خلال :
1ـ العمل على تغيير سلوك المواطن الموريتاني إلى أن يصبح هذا المواطن يأتي إلى الشارع لجمع القمامة بدلا مما كان متعودا عليه من رمي للقمامة على الشارع.
2ـ تحويل القمامة إلى مصدر للدخل خاصة بالنسبة للفئات الأكثر فقرا.
3ـ أتحويل القمامة إلى مورد اقتصادي لا تستفيد منه إلا الفئات الأكثر فقرا على عكس مما هو قائم الآن حيث تعود الاستفادة الكبرى لرجال الأعمال الذين تم التعاقد معهم لتنظيف العاصمة فحصلوا بتلك العقود على أموال طائلة، وذلك في الوقت الذي فشلوا فيه في تنظيف العاصمة.
4 ـ حل مشكلة باستخدام مشاكل أخرى : يشكل هذا الأسلوب أحد أهم الأساليب الإبداعية لمواجهة المشاكل، وكمهتم بتنمية وتطوير الذات فإن من أهم الأمثلة التي يمكن تقديمها عن هذا الأسلوب في أي دورة تدريبية في إدارة المشاكل هو المقترح الذي تقدم به اللواء المهندس باقي زكي يوسف لاجتياح خط بارليف وهو الخط الذي كان يوصف بأنه أقوى خط دفاعي في التاريخ.
كان على الجيش المصري في حرب أكتوبر أن يعبر قناة السويس ويحطم خط بارليف في أقل وقت ممكن وبأقل خسائر، فجاءت فكرة اللواء المهندس باقي زكي يوسف، والتي تتمثل في استخدام خراطيم المياه (ماء القناة) لفتح ثغرات في الساتر الترابي (خط بارليف)، ويقال أن هذه الفكرة على الرغم من بساطتها قد أنقذت 20 ألف جندي مصري من الموت المحقق.
في مقترحنا هذا سنحاول أن نستفيد من مشكلة الفقر والبطالة لإيجاد حل ناجع لمشكل القمامة في العاصمة نواكشوط.
إن هذا المقترح سيحول القمامة إلى قطاع لتشغيل الفئات الأكثر فقرا ويصعب أن ينافسهم فيه الأغنياء، وهذه مسألة في غاية الأهمية، فمن المعروف بأن من هم أحسن حالا في هذه البلاد قد تعودوا دائما أن ينافسوا الفقراء في كل الفرص التي كان يجب أن تبقى خاصة بالفقراء.
إن القمامة لن تختفي من العاصمة نواكشوط إلا إذا حولنا هذه القمامة إلى سلعة تباع و تشترى، وعندها ستختفي كما اختفت الخردة تماما وكما اختفت المواد البلاستيكية الصلبة.
إنه على السلطات أن تؤسس شركة لشراء القمامة، وعليها أن تحدد نقاط شراء خارج العاصمة، ولو أن السلطة قامت بذلك لتنافس أصحاب العربات التي تجرها الحمير في جمع القمامة من شوارع العاصمة، وربما لحق بهم حملة الشهادات وغيرهم من أصحاب السيارات ذات العجلات الثلاثة، فكل من يملك واحدة من تلك السيارات سيكون بإمكانه أن يشغل عددا من العمال لجمع القمامة ولحملها في سيارته خارج العاصمة لبيعها عند نقاط شراء القمامة خارج العاصمة.
لقد كانت الدولة تمنح لشركة "بيزورنو" ملياري أوقية سنويا لتنظيف العاصمة، ولقد نقل عن مدير هذه الشركة في إحدى المقابلات بأن شركته كانت تعالج يوميا 600 طن من القمامة، وهذا يعني بأن الكيلوغرام من القمامة كان يكلف الدولة الموريتانية 10 أوقية، وهو يكلفها الآن أكثر في ظل التعاقد مع شركات خاصة لتنظيف العاصمة. ولو أن السلطة منحت 10 أوقية لكل مواطن يأتيها بكيلوغرام من القمامة، لتنافس المواطنون في جمع القمامة، ومن يدري فربما تحدث نزاعات على ملكية القمامة، وربما تقع خصومات عند جمعها من الشوارع إذا ما تحولت هذه القمامة إلى سلعة تباع وتشترى.
ويمكن أيضا، وكمقترح بديل، أن تتولى القوات المسلحة تنظيف العاصمة، وأن يخصص لها المبلغ الذي كان يخصص للشركة الفرنسية في مرحلة أولى ولرجال الأعمال في مرحلة ثانية، ولكن بشرط أن لا يتم تقديم هذه المبالغ للقادة، وإنما للجنود العاديين الذين سيباشرون جمع القمامة ونقلها إلى الأماكن المخصصة لذلك، وبذلك سيتحسن دخل الجنود مقابل خدمات التنظيف التي سيوفرونها.
تنبيه : هذا المقال تم نشره يوم الخميس 15 سبتمبر 2016 وأعدتُ نشره اليوم مع تصرف قليل، وذلك بمناسبة تجدد الحديث عن القمامة.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل