تنسحب سنة 2019 من الدورة الزمنية الموريتانية متثاقلة مخلفة وراءها وضعا سياسية واجتماعيا مربكا على أكثر من صعيد.
وإذا كان ضربة الرمل وقراء المستقبل قد توقعوا لهذا البلد المغاربي الافريقي مستهل عام 2019 واقعا يطبعه التفاؤل، فإن المتفحص لحصاد العام المنصرم، سيلاحظ تطورات أخرى، فالتناوب على السلطة الذي بدأ سلسا لحقته هزات بسبب خلاف بين الرئيسين ما تزال ناره مشتعلة.
سنة الانتخابات
كانت السنة المنصرمة بامتياز سنة الانتخابات الرئاسية، ذلك الحدث الذي شغل الناس بحملاته وتطوراته ومخاضاته، وملأ الحياة الوطنية الموريتانية على مدى عام كامل.
بدأت بالتحضير للاقتراع والتخلص من قصة المأمورية الثالثة التي حاولها أنصار الرئيس السابق، ليشهد منتصفها، في نهاية المطاف، انتخابات رئاسية كرست تناوبا سلسا على كرسي الرئاسة، لكن السنة ختمت باهتزازات مرحلة ما بعد التداول التي شغلت وقد تشغل النظام الجديد خلال العام المقبل.
تراجع الرئيس المنصرف
لم تتضح للموريتانيين بداية السنة الجارية، ما ينويه رئيسهم بخصوص التخلي عن الرئاسة وتسليمها لخلف منتخب طبقا للدستور، أو الاتجاه نحو تغيير الدستور للبقاء في السلطة عبر انتخابات لمأمورية ثالثة.
وزاد من غموض هذا الموقف أن النواب الموالين للرئيس السابق بدأوا التحرك بفتح عريضة نيابية تطالب بتعديل الدستور.
وبينما الموقف غامضا، فوجئ الرأي العام ببيان قيل إن الجيش يقف وراءه، أعلن فيه الرئيس السابق عن تمسكه “بموقفه الثابت” الذي صرح به في مناسبات عديدة، والمتمثل في تصميمه على احترام دستور البلاد، وعدم قبوله أي تعديل دستوري يمس المواد 26 و28 و99 من الدستور”.
التوجه نحو التناوب
بدأ الرئيس المنصرف بعد أن حسمت موضوع رحيله عن السلطة، التحضير المعلن لترشيح صديقه ورفيق دربه وزير الدفاع الجنرال محمد الشيخ الغزواني للرئاسة خليفة له وهو ما اتجهت إليه الأمور.
وهكذا أعلن الغزواني ترشحه للرئاسة، متعهدا “بتوظيف خبرته من أجل مستقبل أفضل لموريتانيا، والعمل من أجل بناء دولة تحترم قيم الإسلام وأصالته وتكفل لكل مواطن فيها حقه في الحرية والمساواة”.
وهنا بدأ الرئيس المنصرف ولد عبد العزيز حملة دعائية واسعة لصالح المترشح غزواني وكرر في عدة مهرجانات سياسية تحذيراته من “دخول موريتانيا في موجة من الفوضى العارمة إذا لم ينتخب المترشح محمد ولد الغزواني”.
سنة ارتباك المعارضة
بينما رتب الرئيس المنصرف ورفيق دربه ولد الغزواني ومن ورائهما المؤسسة العسكرية والتجمعات القبلية، طرق استحواذهم على الكرسي عبر انتخابات مقبولة، كانت المعارضة الموريتانية تمر بحالة ارتباك غير مسبوقة، حيث فاجأها التأييد الواسع الذي حظي به مرشح السلطة.
وفشلت المعارضة في توحيد مرشحها للرئاسة، ولم توفق مع ذلك في إقناع الحكومة بإشراكها في تنظيم انتخابات حزيران/يونيو الماضي وهو ما دفعها للترشح متفرقة وللدخول في انتخابات تسيرها حكومة خصمها اللدود الرئيس المنصرف محمد ولد عبد العزيز.
وجرت الانتخابات
بعد معارك طاحنة بين ولد عبد العزيز ومعارضيه نظمت الانتخابات الرئاسية يوم الثاني والعشرين حزيران/يونيو الماضي حيث تمخضت عن فوز محمد الشيخ محمد أحمد الشيخ الغزواني في هذا الاقتراع بحصده نسبة 52.01 وكذا عن فوز الحقوقي بيرام الداه مرشح الأرقاء السابقين على نسبة 18.58 في المئة يليه سيدي محمد بوبكر بوسالف مرشح الإسلاميين الذي حصل على نسبة 17.87 في المئة ومن بعده محمد سيدي مولود مرشح المعارضة التقليدية الذي لم تتجاوز حصته نسبة 2.44 في المئة من الأصوات.
رفض للنتائج وتناوب
فجرت نتائج الانتخابات الرئاسية أزمة سياسية خطيرة حيث رفض المترشحون الخاسرون النتائج المعلنة وطالبوا بإعادة فرزها وتدقيقها، ونظموا مسيرات حاشدة لأنصارهم احتجاجا على ما سموه “المجزرة الانتخابية”.
وهكذا حدث غليان في الساحة واعتقلت السلطات الأمنية عشرات من المتظاهرين.
كل هذا لم يمنع من استكمال التناوب بين رئيسين منتخبين قادمين كلاهما من رحم المؤسسة العسكرية ومشتركين كلاهما في انقلابين عسكريين شهدتهما موريتانيا خلال العشرية الأخيرة، وهكذا تبادل محمد ولد عبد العزيز بطل الانقلابات ومحمد الشيخ الغزواني الجنرال الصامت، مقود السلطة تحت أنظار العالم وفي هدوء تام.
وأكد ولد عبد العزيز الرئيس المنصرف محمد ولد عبد العزيز في خطابه التوديعي “أنه واثق من صدق الرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ الغزواني في تحقيق طموحات الشعب الموريتاني”.
إعادة تشكل الساحة
بدأ الرئيس غزواني بعد استلامه مقاليد الحكم في تطبيق أسلوب جديد منفتح يرمي إلى تهدئة الساحة التي تركها سلفه في غاية التأزم، حيث تتالت استقبالاته ومشاوراته مع قادة المعارضة.
وبلغ هذا الانفتاح حد دعوة الرؤساء السابقين وقادة المعارضة لأول مرة لحضور حفلة عيد الاستقلال أواخر نوفمبر الماضي؛ وبهذا دخلت الساحة السياسية الموريتانية مرحلة من إعادة التشكل حيث انضم عدد من قادة المعارضة لأغلبية الرئيس الجديد بينما اعترف البعض الآخر بأهمية السياسات التي أرساها الرئيس الغزواني خلال المئة يوم الأولى من حكمه.
الخلاف مع الرئيس السابق
كل هذا الانفتاح لم يرض الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الذي اعتبر أن خلفه استحدث سياسات أخرى غير سياساته، وأنه صالح خصومه السياسيين.
وبعد أشهر قضاها خارج البلاد، عاد الرئيس السابق إلى الساحة السياسية ليبدأ تنسيقات السيطرة على الحزب الحاكم حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وهو ما فجر خلافا بينه مع الرئيس المنتخب ما تزال تفاعلاته تشغل الرأي العام لحد الآن.
وفي هذا الخضم، ابتعد الموالون السابقون عن الرئيس السابق، وأعلنوا عن براءتهم منه وعن اصطفافهم منتخبين وسياسيين مع الرئيس المنتخب الذي هو بالنسبة لهم مرجعية الحزب الحاكم وليس أحدا غيره.
وهكذا وضعت السلطة مؤيدة بنواب حزب الاتحاد، يدها على حزب الاتحاد وشكلت لجنة للإشراف على مؤتمره المقرر عقده يوم 28 كانون الأول/ديسمبر والذي سيركز على إبعاد الرئيس السابق وكبار أنصاره عن الحزب الذي تتبع له الأغلبية النيابية الحاكمة ذات الأهمية القصوى للصعوبات المالية واللوجستية التي تعترض تنظيم انتخابات اشتراعية جديدة، وإن كان تنظيم هذه الانتخابات أمرا لا بد منه ليجد الرئيس الجديد المكنة اللازمة للحكم.
الخلاف يتعمق
إضافة لإجراءات إبعاد الرئيس عن الحزب الحاكم، قام الرئيس غزواني بعزل الضباط الموالين للرئيس السابق في الحرس الرئاسي، وهو ما أثار غضب سلفه الذي تغيب عن احتفالية عيد الاستقلال.
وأشاعت الأوساط المقربة من السلطة أن الرئيس السابق كان يدبر انقلابا ضد الرئيس الغزواني وأن الانقلاب تم إفشاله، واعترف الغزواني بخلافه مع سلفه، واشتعل التجاذب بين الطرفين وتدخلت القبائل وانتشرت التدوينات وانشغل الرأي العام بهذا الأمر، وطالب معارضو الرئيس السابق بمحاكمته بتهمة الفساد والنبذ، وسربت تقارير لمحكمة الحسابات تتحدث عن فساد وعن تبديد للمال العام خلال فترة حكم الرئيس السابق.
الرئيس السابق يرد
وبعد صمت لمدة أسابيع عقد الرئيس السابق مؤتمرا صحافيا يوم 19 كانون الأول/ديسمبر 2019 رد فيه على التهم الموجهة إليه وشرح خلاله موقفه من الأزمة.
ونبه الرئيس السابق في نقطته الصحافية على ما اعتبره خروقات قانونية لتدخل الرئيس الغزواني في الحزب الحاكم، محاولا حصر الأزمة في الخلاف حول مرجعية الحزب.
واستطاع ولد عبد العزيز أن يعرض موقفه ودخوله من جديد إلى المشهد السياسي الموريتاني من بوابة الدفاع عن الديمقراطية والحريات العامة ورفض تدخل الدولة في الأحزاب السياسية والرهان على الشعوب ووعيها، بعد أن كان قد دخل هذا المشهد من بوابة الانقلابات العسكرية.
آفاق مفتوحة لكنها غامضة
خرجت موريتانيا من العام متباهية بالتناوب على السلطة، لكن الأحداث التي تتالت أخر العام بعد نشوب خلاف مشتعل بين رئيس منتخب وآخر متنفذ، تدل على أن أفراح التناوب قد تنغصها، ربما لشهور عديدة قادمة، أتراح مخاضه العسير.
وبهذا ستستهل السنة الجديدة على نظام الرئيس الغزواني وهو مقيد اليدين ومنشغل، عن تنفيذ تعهداته الانتخابية المستعجلة، بحل الأزمة السياسية القائمة بينه مع سلفه وهي الأزمة التي يرى الكثيرون أن حلها ضروري لاستقرار البلد، وأنه مرهون بانسحاب الرئيس السابق من المشهد حيث أن وجوده داخل الساحة السياسية يشوش كثيرا على حكم خلفه الرئيس الغزواني.
كما جرت العادة، ستنقل هذه الشواغل وهذه الأزمات من العام المنسحب إلى العام الجديد الذي قد ينقلها بدوره للعام الموالي، إن لم تحدث معجزات أو تطورات.
تصريحات
“إن تعزيز الوحدة، وضمان المساواة بين المواطنين سيكونان في مقدمة اهتماماتي، إلى جانب تعزيز الشعور بوحدة الانتماء والمصير، والتركيز على المشترك، واعتماد المواطنة كمعيار أوحد للتعاطي بين الدولة والمواطنين”. (الرئيس الغزواني في خطاب استلامه للسلطة اب/أغسطس 2019).
عبد الله مولود
نواكشوط ـ “القدس العربي”