قبل فترة زرت رفقة النقيب الحسين مدو والزميل أحمدو الوديعة السياسي المخضرم العميد مصطفى بدر الدين شفاه الله ومتعه بالصحة والعافية.
طلب منا العميد في دقيقة واحدة أن نعلق له على الوضع السياسي في البلد وملامحه في بدايات حكم غزواني (اللقاء كان قبل عودة ولد عبد العزيز بأيام) ومن النقاط التي اتفقنا عليها أن ولد الغزواني يستفيد من فترة سماح من النقد مقدمة من الجميع؛ وأن الشعب وقواه الحية تنتظر تنفيذ قرارات مهمة تمس حياة المواطن وتستجيب لحاجياته المتراكمة في الصحة والتعليم وفرص التشغيل، وهو يحاول طمأنة منتظريه عن انتظاراتهم رغم استعجالها بأن الوقت ما زال مبكرا ويجب أن يتيح للرئيس الجديد فرصة دراسة الملفات واتخاذ الإجراءات اللازمة دون ضغط فالقرارات المتخذة تحت الضغط محدودة التأثير غير مأمونة العواقب.
- المعارضة تنتظر وغير مستعجلة لوضع التوتر والتوتير الذي عاشته لأكثر من عقد ونصف من الزمن.
- الداعمون والأطر ينتظرون المكافأة ويمنون أنفسهم بكثرة الوظائف الشاغرة ويُعدون يوميا لوائح بالمتقاعدين والمنتهية أعمارهم الوظيفية، أطال الله أعمارهم غير الوظيفية.
علق بدر الدين بطرافته المعهودة هذا تماما مثل الرصيد المجاني الذي تمنحه شركات الاتصال والمعروف شعبيا بـ(اكريدي لرياح) حيث يشترط مانحوه استخدامه في فترة محددة، وان لم يستخدم فيها ضاع، وضاعت على صاحبه الفرصة.
تذكرت القصة، وأنا أتابع انقضاء عُشر مأمورية غزواني، وبوادر انقضاء فترة السماح تلك وتململ الدوائر الثلاثة.
على الرئيس غزواني والممسكون بزمام البلد إدراك أن الإنجاز في فترة السماح أولى وأهم، وأن شرعية الإنجاز لا تقل أهمية عن شرعية الانتخاب.
لقد تضافرت لغزواني العديد من نقاط القوة لم تتضافر لغيره، فهو عسكري منتخب غير منقلب، جمع بين ميزتي الانتخاب المدني والخلفية العسكرية، وهو من عمق شعبي شكل حاضنة أو عصبية على لغة بن خلدون تلهفت له وتحمست لانتخابه، وهو ورث أزمة سياسية بلغت مداها قبله وشكلت فرصة له للهدوء الذي بشر به، وساعدته المعارضة بجميع أطيافها في تجاوز الانتخابات والتوترات التي تلتها فغاب الحديث التزوير والاعتراف، وثمنت جميعا أجواء الأشهر الأولى من حكمه، وما أطلقت عليه "أجواء الانفتاح والهدوء"، وهو يأتي على أبواب طفرة الغاز التي يتوقع إن أُحسن استغلالها أن تُقلع بالبلد تنمويا بعد أن أقعدته سنوات الفساد بل عقوده.
لكن كل هذه الفرص تتبدد – أو تكاد - بسبب البطء – وإن شئت قل التباطؤ - في الإنجاز.
فعلى سبيل المثال، أهدر الحاكمون في البلد فرصا كثيرة خلال الأشهر الماضية، منها:
- مؤتمر الحزب الحاكم، فقد كان فرصة لإعطاء نموذج مختلف في التعاطي السياسي والانفتاح والابتعاد عن العودة لـ"حزب الدولة".
لقد شكلت نتائج المؤتمر شعورا بالنجاح في معركة "تأميم الحزب" وتحصينه من قبضة الرئيس السابق، لكن آثار "الانتصار" أثرت سلبا على الديمقراطية، وعلى صورة البلد، وسمعة الحزب، كما أخافت المعارضين وأخرجتهم عن صمتهم حين اتصلت بهم الوزارة الأولى في سابقة خطيرة من نوعها لدعوتهم لحضور حفل عشاء حول مخرجات مؤتمر الحزب الحاكم، لتتحول الحكومة إلى مجرد خلية علاقات عامة لحزب سياسي، توجه دعوات العشاء لحفله، فضاعت فرصة الألق الديمقراطي والطمأنة السياسية للمعارضة التي كان المؤتمر فرصة لها.
- سياسيا، توشك المعارضة أن تفقد الأمل في الهدوء السياسي، فلا حوار معها حول إشكالات البلد السياسية، ولا دور للجان تحقيق برلمانييها التي تعيقها الأغلبية البرلمانية منذ أكثر من شهر، ولا جديد في التعاطي الجوهري مع زعيمها، فلم يتم اللقاء المنصوص قانونيا كل ثلاثة أشهر كما لم يتم رفع الظلم عن معارضة الخارج ولم تتم تسوية ملفهم.
- إعلاميا، أهدرت فرص كثيرة فتعطلت أو عُطلت "البرلمانية" منبر الانفتاح الوحيد في الإعلام العمومي، وتوقف البرنامج التلفزيوني اليتيم المخصص للمعارضين في أسوء أوقات الموريتانية مشاهدة، رغم اقتصاره على المعارضين الخارجين من القصر أو السائرين في مساراته، واستمرت فوضى الإعلام الخصوصي، وإن حصلت جهود للتخفيف من التمييع، ستتبدد إن لم تكن ضمن إصلاح جدي سريع.
- إداريا، ما زالت عشرات الوظائف الحيوية دون تعيين رغم كثرة الطالبين وحاجة المعينين، الأمانات العامة للوزارات شاغرة منذ شهور، والإدارة الإقليمية تحتاج تغييرا يعوض النقص الحاصل في المتقاعدين، والمجلس الأعلى للقضاء لم يحول قاضيا واحداً رغم وجود 35% من مقاطعات موريتانيا وأكثرها كثافة من دون قاض، لقد ضاعت – إذن - فرصة استيعاب الأطر والداعمين، واكتفت الحكومة بتقسيط تعيين مسؤول هنا أو هناك، كما ضاعت فرصة تفعيل القطاعات الحكومية، فانتشر الإحباط في المتشوفين للتوظيف من الداعمين، وشلت أغلب القطاعات بفعل شغور مناصب حيوية فيها، وارتبكت مؤسسات مالية ضخمة بسبب انتهاء مأمورية أصحابها من دون تجديد ولا تبديل.
هذه فرص بسيطة أهدرت، وتشكل أنموذجا لضرورة تدارك الوقت، ولا تلغي إنجازات حصلت في بعض القطاعات، لكن هذه الإنجازات ظلت محدودة ومحصورة قطاعيا، وقد وجدت وتجد باستمرار من يذكرها ويكررها.
خلاصة القول، أن بلدا تقوم ثقافته الشعبية على أن (اللي ماج في أول الگصعة ماه جاي في آخرها"، حري بمن يحكمه أن يعطي صورة إنجاز جدي في عُشر مأموريته الأول الذي ينتهي بعد أسبوعين.