يُفيض أهل موريتانيا من كرمهم على ضيوفهم، ويعطون الأولوية للضيف قبل أنفسهم في كل شيء. حين تُوقف موريتانيا في الشارع وتسأله عن وجهة ما، يخصص لك ما يكفي من الوقت ليدلّك إلى حيث أنت ساع ولو كان مستعجلا.
في أحد الشوارع الرئيسية بنواكشوط، استوقفت مواطنا موريتانيا وسألته كيف يمكنني الوصول إلى المسجد المغربي، فأخبرني أن عليّ أن أستقلّ سيارة نقل عمومي، ولم يكتفِ بذلك بل أصرّ على البقاء إلى جانبي إلى حين حضور وسيلة النقل.
قلت له: "لا داعي للبقاء معي حتى لا أؤخرك عن قضاء حوائجك، سأتدبر أمري"، فأجاب بمنتهى اللباقة وقد عرف أنني من المغرب: "لو أتيتُ إلى الداخلة (يقصد مدينة الداخلة المغربية) وسألتك كما سألتني الآن، هل ستتركني؟".
ودون أن ينتظر مني جوابا أكمل: "هذا لا يجوز، نحن الموريتانيين لا نفعل هذا. سأبقى معك لأوصي صاحب السيارة حتى لا يذهب بك إلى مكان آخر غير المكان الذي تقصده. هذا لله في سبيل الله".
بقينا ندردش بعض الوقت إلى أن ظهرت سيارة للنقل العمومي فأشار إلى سائقها، وأوصاه، بعد أن تأكد أنه ماض إلى الوجهة التي أقصد، ولم ينصرف حتى فتح لي الباب الخلفي للسيارة، وأغلقه بعد أن ركبت، ثم لوّح بكفه مودعا.
هذا السلوك الحميد ليس غريبا عن أهل موريتانيا وليس حالة استثنائية، بل هو السائد. الموريتانيون يعطون الأولوية للأغراب من زوار بلدهم. يفعلون ذلك بابتسامة صادقة تليها عبارة: "أنت ضيفنا".
بنية تحتية متواضعة
أول ملاحظة تثير انتباه زائر العاصمة الموريتانية نواكشوط هي ضعف البنية التحتية، فالشوارع، بما فيها التي تضم سفارات الدول الأجنبية، تفتقر إلى التبليط، كما تفتقر إلى النظافة والتنظيم.
على بعد بضعة أمتار من فندق مصنف، يقع في حي السفارات بنواكشوط، يمر المشاة جوار ركام من الأزبال مرمية على الرصيف. هنا، من النادر أن تجد صناديق للقمامة، الأزبال ترمى على الأرض مباشرة، قبل جمعها.
السيارات المتهالكة أيضا، وتلك التي تعرضت لحوادث السير، تُترك على أرصفة الشوارع الرئيسية. بالقرب من السفارة السورية، التي تتصدّر سبورةَ الإعلانات المعلقة على سورها الخارجي صورة لبشار الأسد، توجد سيارتان متهالكتان علاهما الغبار.
في العاصمة الموريتانية نواكشوط، لن تجد مكانا للتنزه. المدينة عبارة عن شوارع وأزقة غير مهيكلة، تفضي إلى الفراغ. "نحن لا يوجد عندنا مركز المدينة (centre ville)"، يجيب مواطن موريتاني يملك صيدلية، بعد أن سألناه عن مكان يقصده زوار المدينة.
وبعد أن هممنا بالانصراف، أرشدنا إلى مكان قال إنّ به مقاهٍ في ملكية مغاربة. المقاهي في نواكشوط مقرونة بالمغاربة، فهم الذين نقلوا ثقافة المقهى إلى "بلاد شنقيط"، التي لم تكن توجد بها مقاهٍ، لأنّ أهلها دأبوا على التلاقي واستقبال بعضهم في بيوتهم، كما أوضح شاب موريتاني.
ملاحظة أخرى تثير انتباه زائر العاصمة الموريتانية، هي أن كثيرا من سائقي العربات لا يحترمون قانون السير، فإذا هممْت بعبور الطريق، فعليك ألّا تطمئنّ للحق في العبور الذي يخولك إياه "الضوء الأحمر"؛ ذلك أن كثيرا من السائقين لا يولون له أي اهتمام.
هسبريس وقفت على "انتهاك حرمة" إشارة المرور الحمراء في مناسبات كثيرة، حتى إن المرء يخال أن لا فرق بين الإشارة الخضراء والحمراء لدى سائقي العربات في نواكشوط؛ إذ يكفي أن يكون الطريق فارغا ليعبُر السائق بكل اطمئنان.
في شوارع نواكشوط، كثير من العربات تبدو في حالة ميكانيكية سيئّة، ما يجعل نسبة التلوث الناجم عن عوادم السيارات مرتفعة جدا، وثمّة سيارات مكسورة المصابيح، وأخرى لا تتوفر على الأبواب، خاصة تلك المخصصة للنقل، أما حزام السلامة فلا يُستعمل نهائيا.
تديُّن وفقر
يحضر الدين بشكل لافت في المجتمع الموريتاني. يتأكد لك ذلك من اسم البلد المطبوع على تأشيرة الدخول: "الجمهورية الإسلامية الموريتانية"، وعندما تغادر مطار نواكشوط الدولي، فأوّل بناية تستقبلك هي مسجد بُني قبالة البوابة الرئيسية للمطار.
داخل كل مؤسسة عمومية ثمة مسجد قائم بذاته، وليس قاعة للصلاة فحسب؛ في قصر المؤتمرات الدولي، وفي الملعب الأولمبي، وفي غيرهما من المؤسسات بنواكشوط. أما الناس فتراهم يصلّون في محلاتهم التجارية وعلى الأرصفة كلما أذِّن للصلاة.
كلما ابتعدتَ من وسط العاصمة نواكشوط نحو هوامشها، تكتشف حياة أكثر قسوة. بالقرب من المسجد المغربي، عند سوق يسمى "السوق الكبيرة"، يوجد سوق عشوائي تباع فيه الأثواب والأحذية والخضر واللحوم والأسماك.
اللحوم في هذا السوق تُرصّ على طاولات واطئة يأتيها من الأسفل الغبار المتصاعد من الأرضية الرملية، وسط حرارة تزيد على اثنتين وثلاثين درجة مئوية، ومن الأعلى تفد عليها أسراب من الذباب تختلط حركتها بحركة السكاكين والسواطير.
في الضفة الأخرى من الشارع يوجد سوق في وضع أكثر سوءا، يباع فيه السمك من طرف النساء في الغالب، في ظروف تنتفي فيها الشروط الصحية؛ إذ توضع صناديق السمك وسط فضاء يعج بالأزبال والنفايات.
في هذا السوق ثمّة مشاهد كثيرة دالة على هشاشة الفئة الاجتماعية التي تفد إليه لاقتناء حاجياتها من المواد الغذائية. ثمّة أطفال يمشون حفاة، عدد منهم يمد يده إلى العابرين تسولا، أما السيارات التي تنقل العائدين الى بيوتهم فأغلبها يفتقر إلى شروط السلامة.
داخل هذا السوق يباع أيضا السمك المجفف من كل نوع، ومنه يتمّ شحن براميل سمك مسجى في الثلج نحو دولة مالي، كما أخبرني بائع سمك، سرعان ما أبدى سروره عندما علم أنني مغربي، وعبر عن ذلك بالقول: "المغاربة يكنون احتراما كبيرا للموريتانيين، وأنا أفضل المغاربة على باقي العرب. أقسم بالله".