لقد كثرت في السنوات الأخيرة الإشادة ب "الإنجازات العملاقة التي تحققت في عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز"َ، خاصة أثناء الحملات الانتخابية الأخيرة. ورغم انتهاء تلك المواسم، فما زالت هذه الإشادة تتكرر بمناسبة و بدون مناسبة، بل ازدادت خلال الزيارات التي يقوم بها الرئيس حاليا للولايات الداخلية.
و لذا ارتأى كاتب هذه السطور أن يدلي ببعض الملاحظات مساهمَة في إنارة الرأي العام حول هذا الموضوع.
أولا: لقد تحقق بالفعل عدد هام من الإنجازات، خاصة في قطاعي الطرق والكهرباء مثلا، كما تم تعزيز أمن الحدود (مع ما يظنه البعض إهمالا للأمن الداخلي، خاصة في العاصمة). ويحسب للرئيس بصفة خاصة ما أصبح يسمى بمشروع "آفطوط الشرقي" لتوفير الماء الصالح للشرب لمناطق واسعة من البلد، و فكرة استغلال مخزون سد "فم لكليته" لهذا الغرض. لكن، و لتقييم موضوعي لأداء الحكومة في المجال التنموي، تجب مقارنة ما تم إنجازه مع حجم الموارد التي حصلت عليها الحكومة في نفس الفترة. ففي أقل تقدير، بلغت الموارد الذاتية (الميزانيات) 2،000 مليار و 500 مليون أوقية في الفترة ما بين 2008 و 2015، أما التمويلات الخارجية فقد بلغت 2 مليار دولار في نفس الفترة حسب المصادر المختصة.
و رغم هذه الموارد الهائلة فإن قطاعات حيوية كالصحة و التعليم و الماء الصالح للشرب، و الكهرباء، و التي هي المكمن الأساسي لإعادة توزيع الثروة الوطنية، ما زالت في وضعية مزرية بكل المقاييس و المؤشرات، و بشهادة الجميع.
ثانيا: لا ينبغي و لا يجوز لأي حكومة أن تمن على شعبها ما توفره من خدمات لمواطنيها حيث أن مهمتها الأساسية، بل الوحيدة، هي العمل من أجل تحسين الظروف المعيشية للمواطنين، خاصة إذا كان ما ينجز هو بأموال الشعب. و لكن يجب أن يشكر الرئيس على ما يجود به من موارده الخاصة على المواطنين كهبته السخية بمبلغ 200 ألف أوقية التي تكرم بها على إحدى المريضات التي صادفها في مستشفى النعمة خلال زيارته الأخيرة لولاية الحوض الشرقي، أو كهديته بمبلغ 50 مليون أوقية التي قدمها لشباب الحوض الشرقي في زيارة ماضية. كما يلزم أن يشكر على توفير حفارته الخاصة لإنجاز آبار لصالح المواطنين في الريف و في المدن الداخلية.
ثالثا: إن بعض المشاريع المنجزة (أو قيد الإنجاز) قد يكون أكثر ضررها من ما يمكن أن تجلب من منافع على الاقتصاد الوطني. فمثلا، و في الوقت الذي خسرفيه الكثير من شركات الطيران في العالم عشرات (إن لم تكن مئات) ملايين الدولار، و في عهد الخوصصة و انسحاب الدولة من الأنشطة التجارية و الصناعية لصالح القطاع الخاص، تم إنشاء شركة للطيران بأموال باهظة أمرت شركة الصناعة و المناجم "سنيم" بدفعها. و رغم أن الشركة (شركة الطيران) لم تنشر قط بيانات مالية، و هي في السنة الخامسة من نشاطها (سر دولة؟)، فإ ن المرجح أنها تتكبد خسائر مالية هامة تدفعها هي الأخرى شركة "سنيم" حسب التواتر. و كان من الأنجع أن توظف أصلا هذه الموارد في بناء الطرق التي تفك العزلة عن الكثير من المدن و القرى التي ما زالت تعاني من هذه المشكلة، وحيث أن النقل البري هو الذي يناسب مستوى الدخل لأغلبية المواطنين. أماالمثال الثاني فيتعلق بالمطار الجديد. و لن نذكر هنا الشبهات التي ما زالت تلاحق الصفقة، فما يثيرالقلق هو أن هذا المطار مصمم لسعة مليوني مسافر، في الوقت الذي لا يتوقع أن يصل البلد إلى هذا العدد إلا بعد عقود من الزمن. و لذا، ستهدر أموال هامة في تسيير و صيانة هذه المنشأة بهذا الحجم الكبير و الذي لا يتناسب مع حجم النشاط. (و يعتذر الكاتب هنا أن المثالين هنا يتعلقان بقطاع الطيران الذي ما زال محل اهتمامه).
رابعا: إن جل المشاريع المنجزة ممولة من قبل مؤسسات تنموية خارجية. و بما أن هذه المؤسسات، في إطار المهمة التي أنشئت من أجلها و لتوظيف الموارد المعتبرة التي تتوفر عليها لتحقيق الأهداف المرسومة لها، تخصص هذه الهيئات تلقائيا غلافا ماليا لموريتانيا (و لكل دولة مستفيدة) يتوجب عليها صرفه في فترة محددة (ثلاث سنوات في أغلب الأحوال).و لذا تتولى هذه المؤسسات في أكثر الحالات كل الإجراءات المتعلقة بتمويل المشاريع، من مرحلة الاستنباط إلى المصادقة على التمويل، مرورا بمرحلة تمويل و إنجاز الدراسات. ولذا فإن دور الحكومة يبقى محدودا نسبيا في هذه الإنجازات و ينصب أساسا حول تسريع و شفافية التنفيذ. إلا أن أداء الحكومة في هذين المجالين يبقى دون المستوى حيث أن القدرة الاستيعابية (سرعة التنفيذ) ما زالت متدنية. فالكثير من المشاريع يسجل تأخرا كبيرا في التنفيذ في الآجال المحددة (و الأمثلة أكثر من أن تعد في هذه الورقة). و أما في موضوع الشفافية، فإن الشكوك تحيط بعدد من الصفقات الهامة، يذكر منها تلك المتعلقة بالمحطة الكهربائية الهجينة بطاقة 120 ميكا وات على سبيل المثال. كما كان على الحكومة أن تقوم بأدوار أخرى لا تقل أهمية و هي السعي إلى زيادة الإعتمادات المالية التي تخصص للبلد من قبل المؤسسات التنموية و ذالك من خلال تسريع وتيرة تنفيذ المشاريع الممولة، و تقديم المبررات الواردة المتمثلة في العجز الحاد في الخدمات الأساسية وإقناع الجهات الممولة بنجاعة السياسات الاقتصادية المتبعة. و أهم من ذالك، كان على الحكومة أن تعمل على توسعة دائرة الممولين "التقليديين" للبلد. فموريتانيا ما زالت محرومة من العون التنموي الذي تقدمه بعض من الدول الوازنة في هذا المجال كالولايات المتحدة (ألتي تقدم مئات ملايين الدولار إلى الدول المجاورة)، و المملكة المتحدة، و كندا و النرويج و دول شمال أوروبا الأخرى.
خامسا: إن وصف إنجازات الرئيس محمد ولد عبد العزيز ب "العملاقة" قد يكون مبالغا فيه، مما قد يضر بمصداقية الخطاب (المقلل أصدق). و لمعرفة هل هي عملاقة بالفعل، فلنقارنها بمشاريع أنجزت في العهود الماضية و التي يتفق الجميع على أنها "عملاقة" حقا: ميناء نواكشوط، طريق الأمل، سد فم لكليته، آفطوط الساحلي، طرق "روصو– بوكي"، "كيهيدي– سيلبابي– كوري"، "نواكشوط – أطار"، طريق تكانت، طريق "نواكشوط – نواذيبو".. و لنتساءل هل يرقى أي من هذه المنجزات المشاد بها الآن إلى مستوى تلك المشاريع لتستحق هذا التصنيف، مع أهمية بعضها.و لكن لا يمكننا إلا أن نذكر في هذا المضمارالمشروع العملاق حقا و الذي سيخلد اسم الرئيس محمد ولد عبد العزيز في تاريخ البلد، ألا و هو مشروع تزويد الولايات الشمالية بماء نهر السنغال الذي أعلن عنه مجلس الوزراء قبل فترة.
سادسا و أخيرا: إن أهم ما يمكن للنظام الحالي أن ينجزه هو توفير الظروف الملائمة لتنمية القطاع الخاص و لتشجيع الاستثمار الداخلي و لجلب الاستثمار الخارجي.و من المؤسف أن البلد مصنف الآن في ذيل الترتيب الدولي في هذا المجال من قبل المؤسسات المتخصصة. و من المؤسف أيضا أن الحكومة لا تحتاج الى "اختراع العجلة" في هذا المجال بل يكفيها أن تتبع السياسات الناجعة و المجربة و التي حققت بها دول كثيرة في آسيا، و حتى الدول القريبة منا، نجاحات هامة في مجال التنمية. و تتلخص هذه السياسات (من بين أمور أخرى) في إرساء قضاء مؤهل عادل و مستقل، و سياسة جبائية محفزة، و نظام تعليمي جدير، و قدرة تنافسية معززة..
محمد الأمين ولد ديداه، استشاري
نواكشوط، 10/06/2015