مبدئيا ستكون موريتانيا هي الرابح الأكبر من حيادها، وعمليا قد لا يكون أي طرف آخر من أطراف الأزمة الصحراوية فائزا من ورائه. لكن ألا يبدو ذلك الموقف خادعا وحمال أوجه، ومفتوحا على اكثر من فهم وتفسير؟
إن سألنا الصحراويين على اختلاف انتماءاتهم عن الأقرب لهم، فسيردون حتما بأن الموريتانيين هم المعنيون. غير أن بلد المليون شاعر حتى إن لم يدر ظهره لهم بالكامل، فإنه لايزال في وضع المراقب البعيد لمأساتهم. ففي الوقت الذي رأت فيه موريتانيا، ومنذ زمن مبكر، أن رفع ورقة الاعتراف الرسمي بالجمهورية الصحراوية سيكفل لها حفظ وجودها، ظلت تصر باستمرار على أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي النزاع الصحراوي. وبينما كانت تمد بين الحين والآخر يدا للمغرب، بقيت تلوح بالموازاة بعدها بالثانية للجزائر.
لكن بغض النظر عن مدى نجاحها، أو إخفاقها في الرقص على أكثر من رجل، فما الذي كان ومازال يجبرها على أن تلعب مثل ذلك الدور، وتتعامل غالبا مع ما يحصل في ذلك النزاع من تطورات بمنطق النأي بالنفس؟ ربما أعاد التصريح المقتضب للرئيس الموريتاني، الجمعة الماضي، حول حياد بلده في المعضلة الصحراوية، مثل تلك التساؤلات، وجعل البعض يحاول تفكيك وتفسير كلماته، والبحث في ما إذا كانت مجرد تذكير سريع وعابر بموقف موريتاني قديم؟ أم كانت تلميحا أو تعبيرا ضمنيا عن رغبة دفينة في إعادة التموقع في المحيط الإقليمي، ومحاولة لتعديل الكفة، وإدارة الدفة قليلا نحو الجزائر، بعد أن انتعش الحديث عن تقارب وشيك مع المغرب. والثابت انه سيكون من المبكر أن نعرف ذلك الآن أو ندرك ما الذي أراده ولد الشيخ الغزواني بالضبط، حين تحدث لمجموعة من الإعلاميين المحليين، ليقول لهم في سياق حديثه، إن موقف بلاده هو «الاعتراف بالجمهورية الصحراوية، وتبني موقف الحياد الإيجابي.. وهي تقف على المسافة نفسها من جميع الأطراف، وهو الموقف الثابت الذي لا تغيير فيه».
لا يزال الموريتانيون يواصلون مسك العصا الصحراوية من الوسط، وتجنب الانحياز لجارة من جارتيهما الكبيرتين المغرب والجزائر
فللوهلة الأولى لا يبدو أن ما صدر عن الرئيس الموريتاني قد يقدم أو يؤخر في شيء، لان ما ذكره لا يخرج عما كان أسلافه يرددونه في السابق، وربما بالحرف. فالكل يعلم أنه منذ اكثر من أربعين عاما، لا يزال الموريتانيون يواصلون محاولاتهم لمسك العصا الصحراوية من الوسط، وتجنب الاصطفاف أو الانحياز الواضح والصريح لجارة من جارتيهما الكبيرتين المغرب والجزائر، على حساب الأخرى في الملف الأكبر والأهم، الذي لايزال يفرقهما، وهو ملف الصحراء، من خلال الحرص المستمر على الإعلان عن نوع من الحياد، قد يبدو بنظر البعض غريبا، وربما أيضا غير مفهوم، أو معقول، في ظل الاعتراف بالجمهورية الصحراوية. غير أن مبعث الاستغراب الآن أن السياق الحالي لم يكن يشير أبدا إلى أن القيادة الموريتانية الجديدة، التي استلمت مهامها منتصف العام الماضي كانت تتهيأ لإرسال تلك الإشارة غير الودية حتما نحو الرباط، في وقت كانت فيه المعطيات تدل على عودة الدفء تدريجيا إلى العلاقات الموريتانية المغربية وانتشر معه حديث بعض المصادر الموثوقة عن زيارة وشيكة للعاهل المغربي إلى نواق الشط. ولعله سيكون من الصعب أن نعرف الأسباب الحقيقية، التي دفعت الرئيس ولد الشيخ الغزواني، لأن يقدم على الادلاء بذلك التصريح المقتضب والمتناقض في الوقت نفسه. إذ لم يكن خافيا عليه بالمرة حساسية جيرانه لأدنى كلمة في الملف. ولعل كثيرين يذكرون جيدا تلك التصريحات التي أدلى بها وزير خارجيته في نوفمبر الماضي، حين كان يتحدث عن ملامح السياسة الخارجية الجديدة لموريتانيا فأسقط عن سهو أو قصد كلمة الغربية من وصف الصحراء ليقول «على مستوى نزاع الصحراء نفضل الآن الحديث عن عدم الانحياز، أي أننا نشيطون مهتمون، ولكننا لا نؤيد ولا ننحاز لأي طرف، فبدلا من الحياد الذي يشير إلى موقف سلبي، نحن لسنا متفرجين، ونريد أن نرى هذا الصراع محلولا في أسرع وقت ممكن»، فحتى وإن لم يصدر حينها موقف رسمي من البوليزاريو أو الجزائر، لاستنكار ذلك، فان التصريح لم يقابل بشكل ودي لا في الجزائر ولا في تندوف، بل اعتبر نوعا من الانحياز النسبي للمغرب. ومع أن ولد الشيخ احمد حاول أن يوازن لاحقا في تصريحاته بعض الشيء، حين قال عن العلاقات الموريتانية المغربية إنها جيدة، ثم وصف بعدها بأيام علاقات بلاده بالجزائر بالممتازة والاستراتيجية، إلا أن وصول وزير خارجية المغرب الشهر الماضي إلى نواق الشط في زيارة وصفت بالتاريخية، وتأكيده من هناك على أن العاهل المغربي يرغب في أن «لا تكون العلاقة مع موريتانيا علاقة عادية، وإنما علاقة استثنائية بحكم ما يميزها من تاريخ ووشائج إنسانية وجوار جغرافي»، أعطى انطباعا بأن الموريتانيين بصدد الخروج من المنطقة الرمادية التي اختاروها لانفسهم منذ بداية الصراع الصحراوي، وأنهم قد ينحازون تدريجيا وبقدر من الاقدار لرؤية الرباط للحل. وقد تكون الضغوط الجزائرية أو حتى التهديدات غير المباشرة للبوليزاريو، هي التي دفعت بالرئيس ليعود للتذكير بالمعادلة الموريتانية في الصحراء، ولكن قد يكون الأخطر في الموضوع، أن تكون هناك وراء مثل ذلك الإعلان بصمات خارجية لدول أخرى بعيدة تماما عن صراعات المنطقة. والمعنى هنا واضح. فرغم أن الموريتانيين كانوا قد نفوا جملة وتفصيلا كل الأنباء التي تحدثت عن عزم الإمارات بناء قاعدة عسكرية في الشمال الموريتاني، لاسباب غير معلومة، إلا أن هناك شكوكا قوية حول حقيقة الدعم السخي الذي وعدت ابوظبي بتقديمه لنواق الشط، خلال زيارة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الاخيرة لها، وحول ما إذا كان الغرض الخفي من ورائه، تمكينهم من الدخول بشكل ما على طرف الأزمة الصحراوية، مثلما أن هناك شكوكا اخرى بالمثل حول طبيعة ما جرى من مباحثات بين الرئيس الموريتاني في زيارته الشهر الماضي للسعودية، التي تزامنت مع وصول الرئيس الجزائري ومستشار العاهل المغربي للمملكة، وفي ما إذا كان السعوديون يرغبون بدورهم في جر موريتانيا إلى معسكر معين. وسيكون من العبث أن يتخيل أحد أنه سيكون بمقدور نواق الشط أن تترك حيادها جانبا وتصطف وراء جهة، سواء كانت المغرب أو الجزائر، لأن مثل تلك المغامرة سترد عليها الوبال، وستكون لها عواقب لا قبل لها بها قد تهدد استقرارها ووجودها بشكل مباشر وفي العمق، إذ لا أحد ينكر أن الظروف التي دفعتها لأن تنسحب في السبعينيات من الصحراء، وتعترف لاحقا بالبوليزاريو، لم تتغير بشكل جذري. ولاجل ذلك فلن يكون بوسع الموريتانيين أن يصطفوا لا وراء طرف ولا ضده. ولكنهم يملكون بالمقابل فرصة ثمينة لاستثمار حيادهم في جمع الجانبين إلى طاولة مفاوضات قد تقودهما إلى حل يمكن أن يحفظ حقوق الصحراويين، ويكرس استقرار موريتانيا ويفشل قبل ذلك وبعده كل المشاريع التي تخطط لها بعض الجهات في الظلام لمستقبل المنطقة عموما والصحراء بالذات. *كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية