مسألة صعبة الهضم.. كيف يمكن للهياكل القديمة كالجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي مثلا، وهي التي تستهلك سنويا ملايين الدولارات، لتنتج مقابلها ركاما من البيانات والقرارات الفضفاضة والعقيمة، أن تستمر في البقاء رغم علم الجميع وإقرارهم بفشلها الذريع؟ هل وحدها رغبة القادة، ومن وراءها الإرادة الأجنبية، هي التي تحسم في ذلك؟ أم أن صمت الشعوب وفقدانها للبدائل هو من يشجعها على المواصلة والاستمرار؟
ربما غير بعيد سيحار البعض أيضا في فهم سر بقاء هيكل من الفصيلة نفسها وهو، اتحاد المغرب العربي، رغم كل الاتهامات والانتقادات التي وجهت له، على مدى اكثر من عقدين. من الواضح أن لا أحد من الزعماء المغاربيين الخمسة، ومع كل التحفظات التي قد يقدمها، بين الحين والآخر، على بعض النواقص والعيوب، يبدو مستعدا لأن يقدم على الخطوة الأولى، ويكون هو المبادر لإطلاق رصاصة الرحمة عليه، بل إن ما يفعله جميعهم، ومنذ سنوات، انهم يكتفون بمتابعة سكونه بلا مبالاة مرة، وبالمزايدة فيمن يكون الأحرص عليه من بينهم، مرات.
وفيما ترى قلة من المتفائلين أن ذلك الاتحاد قد أصيب بوعكة عابرة، وأنه سيفيق من غيبوبته ويتعافى من علله، يعتقد معظم المتشائمين العكس، ويصرون على أن الأمر قد قضي وانتهى، وأنه لم يعد بالإمكان التعويل على حراك أو نهوض جسد ميت، لكن أليس من الغريب حقا أن يظل الاتحاد المغاربي قائما، ولو على الورق، كهيكل صوري، في الوقت الذي لا يبدي فيه أقرب المقربين منه، أو من يفترض فيهم أنهم كذلك، على اعتبارهم رعاته وبُناته، ادنى حماسة أو رغبة في الاهتمام به أو تفعيله وتقوية أدائه؟
الشعوب المغاربية آخر ما يشغلها هو أن يبقى الاتحاد المغاربي أو يختفي من الوجود وهي لا تتحمس لا لبقائه ولا لغيابه
في ظروف مختلفة غاب القادة الخمسة، الذين أطلوا قبل ثلاثين عاما من إحدى شرفات مدينة مراكش، وهم يشبكون أيديهم بأيدي بعض، ويزفون للحشود خبر التأسيس، لكن واحدا فقط ممن حضر معهم حينها وهو ولي العهد المغربي بقي موجودا الآن بعد أن خلف والده في العرش. غير أنه وبعد مرور بعض السنوات فقط على حكمه، بدأ يظهر وفي اكثر من مناسبة نوعا من الضيق والتبرم والقنوط من الاتحاد. ألم يصل به الضجر والغضب حدا جعله يقول مثلا في مؤتمر القمة الافريقية، الذي عقد قبل نحو ثلاث سنوات إن «شعلة اتحاد المغرب العربي انطفأت، في ظل غياب الإيمان بمصير مشترك»، وإن «الحلم المغاربي الذي ناضل من أجله جيل الرواد في الخمسينيات من القرن الماضي يتعرض اليوم للخيانة». ويضيف أنه «مما يبعث على الأسى أن الاتحاد المغاربي، يشكل اليوم المنطقة الأقل اندماجا في القارة الافريقية، إن لم يكن في العالم أجمع»، مدللا على ذلك بأن المبادلات التجارية البينية بين الدول المغاربية تقل عن الثلاثة في المئة من مجموع مبادلاتها. ثم ألم يحذر في ذلك الخطاب نفسه من أنه «إن لم تأخذ البلدان المغاربية العبرة من التجمعات الافريقية المجاورة، فإن اتحادها سينحل»؟ ولكن لم امتنع المغرب إذن رغم كل ذلك، عن سحب عضويته من اتحاد حافظ على كل المساوئ والنقائص، التي حذّر منها الملك محمد السادس؟ ألم يكن الأولى به، وهو الذي أظهر انزعاجه ويأسه من جيرانه المغاربيين، أن لا يضيع وقته ووقت بلده في البقاء في اتحاد لم يعد من ورائه طائل أو مبرر؟
قد يشير منطق الأشياء إلى صواب مثل تلك التساؤلات المبررة والمشروعة، غير أن العلاقات المغاربية لا تدار عادة بالمنطق وحده، فمخلفات التاريخ القريب، وطبيعة التوازنات الصعبة بين العملاقين المغاربيين، أي المغرب والجزائر، والخلافات الحادة بينهما حول ملف الصحراء، تجعل الرباط تتمهل جيدا عند التفكير في أي خطوة قد تقطعها، وتقرأ بدرجة أولى أبعادها وانعكاساتها على الصراع الثنائي مع جارتها. لقد جرّب المغاربة في السابق الخروج والانسحاب من هيكل قاري هو الاتحاد الافريقي، ولكنهم سرعان ما أدركوا أن سياسة المقعد الشاغر لم تنفعهم، بقدر ما أفادت نسبيا خصومهم. ولاجل ذلك فهم ينظرون إلى أي انسحاب من الاتحاد المغاربي من زاوية الكسب والخسارة في صراعهم مع الجزائريين. ولعلهم يقدّرون أن مجرد وجود اتحاد خماسي، حتى لو كان جامدا ومعطلا، هو في حد ذاته كسب لاطروحتهم في رفض انصهار طرف سادس يطلقون عليه الجمهورية الوهمية للصحراويين، ضمن المجال الجغرافي والسياسي المشترك نفسه. لكن الانسحاب قد يعزلهم ويعزز موقع الجزائر، ويجعلها قادرة على أن تكسب باقي الدول المغاربية لصفها، وتجعل تلك الدول تخرج عن تحفظاتها، وعن سياسة الحياد الذي تنتهجه في علاقتها بالجارتين اللدودتين. أما على الطرف الآخر فالجزائريون يبدون بدورهم، ولو بشكل أقل حدة، تبرمهم وانزعاجهم من عجز الاتحاد المرة تلو الأخرى عن تلبية بعض دعواتهم ومبادراتهم، من قبيل تلك التي قدموها لعقد اجتماع على مستوى وزراء خارجية الدول المغاربية، ويتمسكون رغم ذلك بالبقاء فيه. فهم لا يرغبون في إعطاء أي انطباع على أنهم يعطلون، أو يرفضون المسار المغاربي، بل يتطلعون على العكس من خلال وجودهم في الاتحاد إلى أن يثبتوا أنهم من بناة ذلك المسار، ومن أشد المتحمسين له ويعتبرون أن مثل ذلك الحضور سيمنع المغرب على الاقل من الفوز الرمزي بالزعامة المغاربية، لكن ما الذي يمكن أن يشد الباقين إلى اتحاد لم يقدم لهم أضعف الأشياء، وهو التضامن الرمزي معهم ضد العدوان الذي استهدف ومازال جزءا من التراب المغاربي، مثلما حصل ويحصل في ليبيا، بقصف وحصار طرابلس؟ إن ضيق خياراتهم وخشيتهم من أن يمنح ذلك أفضلية ما لخصومهم، هو ما يجعلهم يتمسكون به. ألا يقولون إن الغريق يتمسك ولو بقشة؟ فهل سيكون منتظرا مثلا من فائز السراج، أن يترك المقعد الليبي ليكون في متناول غريمه حفتر؟ وهل سيكون متوقعا من موريتانيا، التي عانت من صراع الجارتين، وبحثت عن الاعتراف المغاربي والعربي بها، أن تترك هي أيضا مقعدها في الاتحاد بسهولة؟ ثم ألن يكون من الغباء أن يتخلى التونسيون عن الترضية، التي حصلوا عليها حين منحوا أمانته العامة على ما فيها من بساطة ورمزية؟
لكن ما موقع الشعوب المغاربية من كل ذلك؟ المؤسف أن آخر ما قد يشغلها هو أن يبقى الاتحاد أو يختفي من الوجود. وهي وفي الوقت الذي لا تتوقع فيه أن يضيف لها أي جديد لا تتحمس لا لبقائه ولا لغيابه. ويبدو أن سلبيتها تلك هي التي تمنح الاتحاد المغاربي بعض الأنفاس، لكن إلى متى سيدوم ذلك؟ ربما سيكون علينا أن ننتظر الوقت الذي يصاب فيه القادة المغاربيون باليأس، ويقتنعوا بأنه لم يعد هناك جدوى لاستمرار اتحادهم في التغطية العقيمة على أشياء كثيرة مثل وحدة مواقفهم ومصائرهم.
كاتب وصحافي من تونس