بدءا لابد من الاعتراف بأن وباء كورونا قد أربك دولا ذات منظومات صحية قوية، مما يعني بأن حالة الارتباك عندنا كان من المتوقع لها أن تكون أشد وأقوى، ولذا فأنا على استعداد تام لتفهم أكبر حجم من الأخطاء قد يقع، ولكن سيبقى لذلك التفهم حدوده.
لقد كنتُ من الذين وقفوا ـ ومنذ أول يوم ـ مع معالي وزير الصحة، ولم أتردد ـ ولا للحظة واحدة ـ في أن أدعمه بالكتابة، ولي مقالات كثيرة شاهدة على ذلك، كما شاركتُ ميدانيا في بعض الوقفات الداعمة لمشروعه الإصلاحي الذي أعلن عنه بعد تعيينه وزيرا للصحة منذ ما يزيد على تسعة أشهر.
لستُ نادما على ذلك الدعم، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما ترددتُ في دعم الوزير عندما رفع شعاره الإصلاحي، ولكن ذلك لن يمنعني من أن أقول الآن، وبأعلى صوتي، بأني لستُ راضيا عن ما آل إليه المشروع الإصلاحي للوزير، فحصيلة الأشهر التسعة كانت متواضعة جدا، ويعود ذلك إلى جملة من الأخطاء التي ارتكابها الوزير، وهي الأخطاء التي سنذكر بها في هذا المقام تبعاً لتسلسلها الزمني.
(1)
كان أول تلك الأخطاء هو التركيز على قصة المائتي متر، وتضييع جهد كبير وثمين لفرض احترام تلك المسافة، مع أن المنطق كان يقول بأن هناك مشاكل أخرى تهدد القطاع أكثر أولوية وأكثر إلحاحا من فرض مسافة المائتي متر.
(2)
لقد تمت محاربة الآلية القديمة التي كانت متبعة لتوفير الدواء، وذلك من قبل وضع آليات جديدة، وكانت النتيجة أن البلاد أصبحت تعاني اليوم من أزمة خطيرة في الدواء..فهناك نقص حاد، بل واختفاء كامل، لبعض الأدوية الأساسية وبعض أدوية الأمراض المزمنة، ولا نعرف كيف ستتم معالجة هذا الخطأ الجسيم. هذه الأزمة الحاصلة في بعض الأدوية إن لم يتم حلها بشكل سريع فإنها قد تنذر بخطر أكبر من خطر وباء كورونا.
(3)
لم يكن من الممكن أن يتم إصلاح قطاع الصحة بنفس الأشخاص الذين أفسدوه..صحيح أن الوزير قام بتعيين بعض الموظفين الجدد، ولكنه احتفظ بالكثير من الموظفين القدامى الذين أفسدوا القطاع. ثم إن الموظفين الجدد الذين تم تعيينهم لا يختلف الكثير منهم عن أولئك الذين أفسدوا القطاع. إنه من الصعب جدا ـ بل ومن المستحيل ـ أن نصلح قطاعا بنفس الطاقم وبنفس الأساليب التي أفسدته.
(4)
لقد تأخر ظهور وباء كورونا في بلادنا، وهو ما أعطانا فرصة ثمينة كانت كافية لإعداد خطة متكاملة لمواجهة هذا الوباء، خاصة في مجالي الفحص والحجز، ولكننا للأسف الشديد لم نستغل هذا التأخر، الشيء الذي نتج عنه ما نسمع اليوم من رسائل صوتية تتحدث عن نواقص عديدة على مستوى الفحص والحجز..صحيح أنه قد تكون هناك مبالغات في بعض الأحيان في تلك الرسائل الصوتية، وهي مبالغات ناتجة عن الحالة النفسية لأصحاب تلك التسجيلات، ولكن الصحيح أيضا أن هناك تسجيلات تتحدث عن معاناة حقيقية تؤكد وجود اختلالات فعلية على مستوى الفحص والحجز.
(5)
من الأخطاء التي ارتكبها الوزير أنه حاول أن يواجه وباء كورونا دون خطة واضحة المعالم، معتمدا على أسلوب التدخلات وردات الفعل الشخصية. وقد دخل الوزير ـ وفي وقت حساس جدا ـ في خلافات مع بعض الأطباء فأصدر تعميما هددهم فيه، وتم نشر ذلك التعميم في الإعلام، وهو ما ردت عليه نقابة الأطباء ببيان شديد اللهجة، مما كاد أن يتسبب في حرب بين الوزير والأطباء. لم يكن نشر الوزير لتعميم يهدد فيه الأطباء في وسائل الإعلام بالأمر الحكيم، وقد حاول البعض أن يستغل تعميم الوزير وبيان نقابة الأطباء لتأجيج الخلاف بين الوزير والأطباء، وهو ما جعلني أكتب حينها مقالا تحت عنوان :" الوزير والأطباء في خندق واحد!"، وذلك للوقوف ضد محاولات تأجيج الصراع بين الوزير والأطباء في مثل ذلك الوقت الحساس .
(6)
ارتكب الوزير خطأ دبلوماسيا جسيما، وذلك عندما قال على هامش حفل تسلم مركز الأمراض المعدية من السفارة الصينية بأن بعض أجهزة الفحص المقدمة من طرف الصين كهدية لبلادنا غير صالحة. لم يكن من المناسب قول ذلك، حتى وإن تأكد أن الأجهزة كانت بالفعل غير صالحة، وهو الشيء الذي لم يتأكد، فالصين قد ساعدتنا كثيرا، والعالم كان يتنافس على كسب ودها بعد تغلبها على وباء كورونا، وسيتنافس مستقبلا بشكل أوضح، فلماذا نقرر نحن أن نثير غضب الصين في مثل هذا الوقت الحرج؟ لقد أغضب تصريح الوزير السفارة الصينية في بلادنا، وهو ما عبر عنه البيان الذي أصدرته السفارة للتعليق على حديث الوزير، وقد جاءت في هذا البيان فقرة تقول: "وقد قدمت الحكومة الصينية والمؤسسات الصينية للدول الإفريقية من ضمنها موريتانيا ما في وسعها من المساعدات والدعم، وقد لقيت ترحيبا حارا من كل الدول الإفريقية حكومة وشعبا خاصة من القطاع الصحي." وكأن كاتب البيان قد أراد أن يقول بلغة دبلوماسية صريحة وفصيحة : لماذا شذ وزير الصحة الموريتاني عن وزراء الصحة الأفارقة فشكل الاستثناء؟ هذا الخطأ الدبلوماسي الجسيم هو الذي دفعني إلى نشر مقال مطول في صيغة اعتذار ضمني، وكان عنوانه : " شكرا للصين حكومة وشعبا".
(7)
لقد شاركت ميدانيا، وفي وقت مبكر في حملة "معا للتوعية ضد كورونا"، وهي الحملة التي ضمت سبع منظمات نشطة ميدانيا، وقد تقدمنا في هذه الحملة برسالة إلى معالي وزير الصحة عبرنا من خلالها عن استعدادنا الكامل لمساعدة الوزارة في الجهود التوعوية ضد كورونا، ومساعدتها كذلك في محاربة الشائعات التي يفترض أنها ستنتشر مع ظهور الوباء في بلادنا، ولكننا للأسف الشديد لم نجد أي رد من الوزارة.
لقد نظمنا ـ بطبيعة الحال ـ أنشطتنا التوعوية والتحسيسية ضد كورونا في مقاطعات نواكشوط التسع وفي بعض مدننا الداخلية، ولقد قمنا بذلك لأن الواجب الوطني يفرضه علينا، حتى وإن رفضت الوزارة المعنية التعامل معنا. ما أريد قوله هنا هو أن الوزارة لم تساعدنا لا بمناشير ولا بقصاصات إرشادية، ولا حتى بكلمة شكر، وأظن أن ذلك كان هو حالها مع كل منظمات المجتمع المدني التي ساهمت في التوعية ضد كورونا. اللافت في الأمر هو أن الوزير كان قد عبر عن استعدادهم في الوزارة لإشراك المجتمع المدني في الجهود الرامية للتصدي لكورونا.
ختاما
لا خلاف على حسن نية وزير الصحة، ولا على أهمية أن يفتح الوزير هاتفه لاستقبال بعض المشاكل الفردية والعمل على حل تلك المشاكل، لا خلاف على ذلك، ولكن لا خلاف أيضا على أن ذلك لا يكفي لحل مشاكل قطاع الصحة المعقدة.
لقد مُنح الوزير ـ على المستوى الرسمي ـ الصلاحيات الكافية للبدء في إصلاح القطاع، كما مُنِح على المستوى الشعبي دعما غير مسبوق، ولا أظن أن وزيرا من قبله قد حصل على مثل ذلك الدعم الشعبي، ولكن، وللأسف الشديد، فإن الوزير لم يستغل الصلاحيات الرسمية والشعبية التي منحت له في إصلاح القطاع، بل على العكس من ذلك فقد ارتكب المزيد من الأخطاء كانت حصيلتها هذا النقص الحاصل في بعض الأدوية وتلك التسجيلات الصوتية المتداولة عن فشل هنا وهناك في التعامل مع المصابين والمخالطين. أختم هذه الخاتمة بالقول بأنه لم يدفعني لكتابة هذا المقال عن أخطاء الوزير إلا حرصي الشديد للفت انتباه معاليه إلى أخطائه، علَّهُ يسارع إلى تصحيحها، إن كان ذلك لا يزال ممكنا.
حفظ الله موريتانيا...