ملكية وسط جمهوريات، قد يبدو الثوب المغاربي فضفاضا وملونا ومنوعا، بدرجة تجعل البعض يراه مفصلا على أكثر من مقاس. غير أن آخر ما يمكن أن يشغل طيفا واسعا من المغاربيين هو، أن يكون مثل ذلك الأمر مناسبا لهم، أم لا. وعلى أي حال، فحتى إن لم يعرف البعض أنهم ينحدرون جميعا من أصل عربي أو بربري واحد، وصادف ورأى أحدا منهم في لندن أو في باريس، أو في أي عاصمة غربية أو شرقية، فلن يكون بوسعه التحقق حينها بسهولة في ما إذا كان الذي رآه تونسيا أم مغربيا أم جزائريا، أم ليبيا أم موريتانيا. ولن ينفي ذلك أنه على قدر ما يتشابه المغاربيون ويتشاركون في اللسان والعقيدة والطباع، فإنهم لا يتماثلون بالضرورة مع بعضهم بعضا.
وهذا الأمر قد يبدو عاديا، بل طبيعيا جدا، فأنت إن لم تجالسهم أو تعاشرهم، فلن تكتشف على الأغلب أن هناك فروقا بينهم، قد تبدو لك مرات طفيفة وبسيطة، وقد تجدها في أخرى، وعلى العكس عميقة وجذرية. وما يقوله الواقع هو أنهم يتوزعون على خمس دول، لكل واحدة منها نظامها ونمط عيشها المختلف نسبيا عن الأخرى، وباستثناء ليبيا التي عاشت على مدى أربعين عاما في ظل نظام غير مألوف، فإن الباقين يعيشون في ظل ملكية في المغرب وجمهوريات في الجزائر وتونس وموريتانيا. لكن هل كان مثل ذلك الاختلاف البنيوي لهياكل السلطة في دولهم، هو الحاجز الاكبر والوحيد الذي وقف أمامهم، ومنعهم طوال عقود من أن يشكلوا معا وإلى حد اليوم كيانا مغاربيا فاعلا ومؤثرا، أو أن يطمحوا في الحد الأدنى، على الأقل، إلى تحقيق قدر معقول من التنسيق والتكامل بينهم؟
لطالما اعتقد كثيرون أن العلة وحدها تكمن في الطبيعة المتنافرة للأنظمة المغاربية، وإن ذلك الخلل المنهجي كان السبب في تباعدهم وانكفاءهم وراء حدود ظالمة واعتباطية، خطها المستعمر لهم عن سوء قصد. ومن المؤكد أن ذلك العنصر بالذات كان في وقت ما، آخر ما يمكن أن يخطر ببال المغاربيين، وهم يتكاتفون معا في الخمسينيات مثلا لمحاربة المستعمر في خندق واحد، أو حتى بعدها في الأعوام الأولى، التي تلت حصولهم على استقلالهم، لكن تفرق الخيارات في تلك المرحلة بالتحديد، قد يكون ترك أثرا بالغا وملحوظا على مسار تكاملهم. فقد اعتبر قادة الثورة الجزائرية في تلك الفترة، أنهم طعنوا في الظهر، وتعرضوا للخيانة من جانب جيرانهما حين قبل هؤلاء التفاوض مع الاحتلال الفرنسي على شروط استقلال بلديهما، متجاهلين اتفاقا سابقا كان يقضي بأن يرفض ثلاثتهم أي عرض فرنسي بالاستقلال، لا يشمل تونس والمغرب والجزائر معا. ومقابل ذلك رأى زعماء الحركات التونسية والمغربية أنه لم يكن بوسعهم أن يفرطوا في ما اعتبروها فرصة ويتجاهلوا اليد التي امتدت نحوهم. لكن سرعان ما انتقل ذلك الشعور بالخيبة وبالتعرض للخيانة سنوات قليلة، بعد استقلال الأقطار الثلاثة إلى تونس والمغرب، بعد تمسك الجزائريين بالحدود الموروثة عن الاستعمار. غير أن المؤكد، أن تلك المناورة الفرنسية هي التي صنعت أولى الفجوات، وجعلت المغاربيين ينقسمون فعليا إلى معسكرين اثنين، واحد يؤمن بالمفاوضات والطرق السلمية لدحر المستعمر، والاخر يتمسك بخيار المقاومة المسلحة للتخلص منه. وقد تكرس ذلك بقوة مع استعار الحرب الباردة، وتحول إلى نوع اخر من التقسيم، بين دول رجعية هي تونس والمغرب، واخرى تقدمية وثورية هي الجزائر وليبيا. ولم يكن معيار الفرز بين الفريقين بالاساس، طبيعة تلك الانظمة، إذ لم يكن الجزائريون مثلا يبدون أي قلق، أو توجس من الملك الراحل محمد الخامس، أو ينظرون بالمثل بشكل مختلف إلى ملكية المغرب وجمهورية تونس. وربما بدا غريبا بعض الشيء أن تحتفظ أكثر دولة مغاربية تحررية وهي تونس، بأوثق العلاقات مع الملكية الوحيدة في المنطقة، أي المغرب باستثناء فترة قصيرة انقطعت فيها العلاقات بينهما، إثر الاعتراف التونسي باستقلال موريتانيا.
على قدر ما يتشابه المغاربيون ويتشاركون في اللسان والعقيدة والطباع، فإنهم لا يتماثلون بالضرورة مع بعضهم بعضا
لكن الرئيس التونسي الراحل بورقيبة كان واضحا منذ البداية، حين قرأ أولى فقرات خطابه في المجلس التأسيسي يوم إعلان الجمهورية وقال فيها « وقبل التمادي في إبداء وجهة نظر النواب في الموضوع (أي اختيار النظام السياسي الجديد لتونس) أرى لزاما عليّ أن أصحح الوضع في هذا النقاش، فقد أطنب الزملاء من قبلي في مضار الملوكية. وربما يفهم البعض أن نقاش مجلسنا يتناول النظم الملوكية على إطلاقها، في حين أننا إنما نقصد النظام الملكي في تونس لا غير»، مشيدا في الخطاب نفسه بسلطان المغرب الذي «عانى الحرج والضغط نفسهما»، الذي عاناه ملك تونس، أو الباي من المستعمر لكنه «لم يوافق على أي جزء من مشروع الإصلاحات الذي تقدم به إليه المقيم العام» بحسب ما قاله. غير أن أغرب ما سيحصل في وقت لاحق، أن يتفق النظامان المغربي والليبي، في النصف الأول من الثمانينيات على إنشاء اتحاد بينهما، وأن يتركا، ولو لفترة، كل ما كان يبدو اختلافات جذرية بينهما، وربما لن يتيسر فهم ذلك بمعزل عن قاعدة التحالفات والتحالفات المضادة، التي استمرت في شق المغرب الكبير وتقسيمه فعليا إلى محورين كبيرين، مغربي وجزائري. فمثل ذلك التنافس والصراع المحتدم بين الجارتين اللدودتين هو من غذى الاستقطابات، وقتل معها فعليا أي أمل في تحقيق اتحاد حقيقي بين الدول المغاربية، لكن هل كان اختلاف النظامين هو السبب الأصلي وراء ذلك أيضا؟
قد يعتقد كثيرون أنه لن يكون ممكنا أبدا أن تلتقي ملكية المغرب يوما مع جمهورية الجزائر، غير أن لا أحد باستطاعته الجزم بأنه في حال ما اذا تغير أحد النظامين أو كلاهما، فإنه سيحصل اختراق حقيقي بين الجانبين. فالطموح الامبراطوري مازال يسكنهما معا، وهو لا يميز كثيرا كما يبدو بين رجال العسكر ورجال المخزن. وهنا لا يكمن الإشكال في هيكل أو شكل السلطتين، بل في مدى استعدادهما لتقديم تنازلات متبادلة لبعضهما بعضا. أما الحاجز الذي يمنعهما من ذلك فهو، غياب الثقة نهائيا بينهما، وتوجس كل واحد منهما من الآخر، ما يجعل من الخطوة الاولى نحو الصلح أشبه بحمل ثقيل، يحاول كل طرف إلقاءه على كاهل الطرف المقابل. وربما يجد الجانبان في خضم ذلك أن أفضل ما يفعلانه لإثبات الحاجة الملحة لهما في أي حل، هو تأكيد ما يبدو اختلافا عميقا وجذريا بينهما. غير أن الاخطر في القصة كلها، أن يتحول مثل ذلك الانطباع إلى الشعبين ويصير بالنسبة لهما نوعا من الاعتقاد الراسخ بان لا حل للتوترات بين البلدين، إلا باختفاء نظام وبقاء الاخر. فمثلما لن يعني تنوع الثوب المغاربي، أنه لن يناسب المغاربيين كلهم، فان الاحتفاظ بلون واحد قد لا يجعله بالضرورة أيضا مفيدا، أو ملائما لأي أحد منهم.
نزار بولحية
كاتب وصحافي من تونس