تقع جووال على الضفة الصغرى في منطقة سين سالوم جنوب شرق دكار. جداول المحيط ومستنقعاته تعطي الانطباع بأنك تتجول في مجموعة أرخبيلات مشتتة بين قرى السرير: ذلك العرق الذي انزاح من ضفة نهر السينغال أمام المد المرابطي في القرن الحادي عشر الميلادي ليحل بهذه الأرض النائية.. كان صديقي، باتي غي، منهمكا في شرح أبرز معالم جووال حيث ولد الشاعر الكبير، ملهم الفكر االزنجَوي، ليوبولد سيدار سينغور (أول رئيس لجمهورية السينغال).. كان المنزل الذي تربى فيه سينغور، المعروف بــ "امبيند ديوغوي" أو "دار الأسد" بالسريرية، ما يزال شاهدا على تاريخ ذلك الصرح اللغوي الشامخ. هنا أيضا ولد يحيى جوب (يكيني): أسطورة المصارعة الإفريقية.
المساجد والكنائس تتعايش في جووال متجاورة في سلام منقطع النظير. هنا، وفقط هنا، توجد مقبرة مختلطة تأوي أموات المسلمين والمسيحيين في حيز واحد وفي صمت مسالم بديع.. الحديث مع العجوز أليزابيت افــّـايْ يرغمك على دخول معترك التاريخ عنوة: "نعم، هزم المرابطون جيوش ملكنا آما غودي مات، لكننا تمكنا من قتل زعيمهم أبي بكر بن عامر بسهم مسمم".. هكذا تتبجح السيدة في حديثها عن واقعة كانت ستكون أبرز عنوان في الصفحات الأولى لكبريات الجرائد الصادرة سنة 1087م (لو كان ثمة صحف حينذاك).. آثار الوثنية بادية هنا وهناك، رغم أن المبشرين المسيحيين وصلوا تخوم جووال سنة 1636، غير أن المسيحية لم تنتشر بشكل واسع بين عرق السرير إلا خلال القرن التاسع عشر في ذات الوقت الذي مر فيه بمنطقة السين سالوم المجاهد الحاج عمر تال الفوتي حيث بنى أول مسجد هناك.. غير بعيد من جووال تتناثر بين جداول المحيط منازل وأكواخ قرية "بلمري انغيج": هنا سأكتشف لأول مرة أن التراتبية الاجتماعية السريرية تضم في هرميتها فئة من أصول بيظانية.. قد يبدو الأمر غريبا لأننا كنا نعرف أن عرق الولوف وحده يضم مجتمعات من البيظان ذابت فيه منذ قرون كـ"سغوفارا وكــُـنتا كــُـنتا". وكان ذلك معقولا بسبب التماس الجغرافي القديم.. أما السرير فعرق بعيد جدا من منطقة التماس مع البيظان. كيف إذن اندمج مجتمع من البيظان في هرمية السرير؟ متى كان ذلك؟ هل هاجروا معهم إبان سيطرة المرابطين؟ هل كان مقدمهم إلى بلاد السرير لاحقا؟ وتــُـرى ما أسباب هذا التزاوج العرقي الغريب؟.. لتوضيح موقع هؤلاء البيظان في مجتمع السرير تلقينا شروحا مفادها أن مجتمعهم ينقسم إلى فئات هرمية، هي: الماد أو الأسر الملكية، والجامبور أو الأناس الأحرار، والبادولو الذين "لا يملكون أحدا ولا يملكهم أحد"، واللاو أو المهرجون، والسونيىت أو الزفانون، ونار نو ماد أو بيظان الملك، والنيينيو أو المطربون والصناع التقليديون (المنحدرون أساسا من عرق الولوف)، والوودي أو حرفيو الجلود، واللاوبي أو حرفيو الخشب (المنحدرون من عرق الفلان في الغالب)، ثم الفاد أو العبيد.. ما يهمنا هنا هو فئة الـ"نار نو ماد".. فالترجمة الحرفية واضحة: إنهم "بيظان الملك".. فئة تقع وسط الهرم الاجتماعي، تحظى بشيء من التقدير، مهمتها مرافقة أبناء الملوك وتأطيرهم وضبط تصرفاتهم وإبداء الشهادات والملاحظات حولهم. فكل مرشح لأن يصبح ملكا لديه مستشار من فئة "بيظان الملك"، يرشده ويراقب مسلكياته، وسيؤخذ برأيه فيه قبل اعتلاء العرش.. أمر محير يحتاج إلى باحث متمكن أو مؤرخ مقتدر لسبر أغواره.
قرية "بلمري انغيج" تقع إذن بين غابات منتشرة في جيوب من المحيط الأطلسي، مسالكها الوعرة غير معبدة لذلك لا يوجد بها إلا مطعم واحد.. دخلت وصديقي ذلك المطعم الفسيح بحثا عن غداء وشاي سوف "نــُـمَـرْتـنه" بطريقتنا.. كنت بحد ذاتي أشكل أكبر مفاجأة لمالكة المطعم السبعينية ماري صار.. لما رأتني مرتديا دراعة موريتانية بامتياز ارتسمت على وجهها ابتسامة حزينة وتنطقت بمفردات من الحسانية حفظتها في أواخر سبعينات القرن الماضي.. جلسنا على المقاعد الخشبية وتبادلنا التحية والترحاب.. تحدثنا مليا بمزيج من السريرية التي يتقنها صديقي باتي غي، وقليل من الحسانية، وجرعات من الولفية والفرنسية لتوضيح ما استعصى من أفكار.. هنيهة بدأت تذرف الدموع.. سألتها: ما الأمر؟.. قالت: إنه سر دفين، منه ما يمكن أن أبوح به ومنه ما لا يمكن أن أبوح به. قلت لها: فرّجي عن نفسك وحدثيني عما يدور في خلدك سيدتي. قالت: عندما رأيتك في زيّـك هذا تذكرت حبيبي الفقيد وولدي جان: Jean. فولدي جانْ لا شيء يميزه عن البيظان: شعره مسترسل ولونه فاتح. عندما تراه يوحي إليك منظره بأنه بيظاني صرف وإن كان لا يعرف كلمة من الحسانية، فقد تربى مع أخواله السرير منذ ميلاده في أوائل سنة 1979. سكتت ماري لتبتلع ريق المأساة.. قلت: تابعي سيدتي، من هو والد ابنك؟.. قالت: ذلك هو السر الدفين، كل ما أستطيع قوله هو أن والد ابني مسؤول موريتاني رفيع، تعرفت عليه في دكار، وأنجبت منه طفلا.. لاحظت أن مولودنا يحرجه كثيرا، لا أعرف السبب. طلب مني أن أتعهد له بكتمان الأمر حتى يزور موريتانيا، وعندما يعود إلى دكار سيعرض علي فكرة واضحة بشأن الطفل.. غادر بالفعل إلى موريتانيا، وأخبرني عن طريق صديق سينغالي أنه سيعود إلى دكار في مايو 1979 في طائرة تضم وفدا حكوميا موريتانيا رفيعا.. وفي ذلك اليوم المشؤوم، حين كنت أنتظر قدوم أعز الناس علي، علمت أن الطائرة تحطمت في المحيط قرب حي "ألمادي" عندما كانت تهم بالنزول في مطار دكار.. هكذا ماتت أحلامي وبقي ولدي بلا أب إلى الأبد.. صمتٌ آخر وبحح وتلعثم ودموع.. إنها تعني طائرة البيفالو التي تحطمت في دكار يوم 27 مايو 1979 وهي تحمل على متنها رئيس الوزراء المقدم أحمد ولد بوسيف، ومدير ديوانه والي انضو، وقائد القوات البحرية انجاي انجاك، وموظفين سامين بوزارة الخارجية الموريتانية...قلت: سيدتي ماري، بعد مضي كل هذا الوقت، لماذا تصرّين على كتمان هوية والد ابنك؟ ولماذا لم تبحثي عن خيط يوصلك لأهله وورثته؟.. قالت: أخي، العهد في ديننا المسيحي مشكلة كبرى، وقد أعطيت عهدا أمام الله بأن لا أتحدث عن هوية والد طفلي إلا عندما يعود ويعطيني مقترحا واضحا بشأنه. وبما أنني أحترمه وأحبه فلن أكشف عن سر أراد له هو أن يبقى طي الكتمان لسبب أجهله.. كل ما أعرفه هو أن الأمر في غاية الإحراج له. ولا أعرف ماذا كان سيقترح علي بعد عودته.. هل كان سيطلب مني التكتم أكثر؟ هل كان سيطلب مني تربية الطفل إلى أجل مّا أو في انتظار حل معضل مّا؟".. قلت: لكن لماذا تريدين لطفلك أن يكون ضحية لمجرد عواطف شبابية؟.. قالت: سيبقى ضحية وسأبقى أنا ضحية من أجل روح فقيدي. لن أبوح باسم هذا الرجل أبدا، ولن أحقق في أمر مضت عليه الآن قرابة 37 سنة. ابني الآن ميكانيكي، يعمل في حي "اكران يوف" بدكار، متزوج وله أطفال، ليست لديه أية مشكلة، بل يفهمني جدا ويتفهمني جدا..
فهمت أن عليّ الكف عن أسئلة لا تزيد جرحها إلا إيلاما.. استودعتها الله وعشرات الأسئلة تدور في ذهني: ما مدى صحة هذه القصة المحزنة؟ هل كان والد جانْ أحد موظفي الخارجية الذين قضوا نحبهم في الطائرة؟ أم أنه شخصية حكومية أخرى من ضمن الوفد؟ هل كان متزوجا في موريتانيا وخاف على تفكك روابطه الزوجية؟.. مهما يكن فطائرة بوسيف يبدو أنها كلها ألغاز: من سبب السقوط، إلى الساقطين...