كلمة قالها الخليفة الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، نفتتح بها لننبه أن هذا الشهر الكريم هو شهر القرآن، وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وهو الشهر الذي يجب علينا أن لا نضيع فرصته النادرة للاقتراب من القرآن الكريم، فقد كان من السلف الصالح من يختم القرآن
أكثر من أربعة آلاف مرة، فهذا العابد الزاهد عبد الله بن إدريس لما نزل به الموت اشتد عليه الكرب فلما أخذ يشهق بكت ابنته، فقال:-يا بنيتي- لا تبكي، فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة .. كلها لأجل هذا المصرع، قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: وروينا عن إبراهيم بن أبي بكر بن عياش أنه ( أي إبراهيم ) قال: قال لي أبي: إنَّ أباك لم يأت فاحشة قط ، و إنَّه يختم القرآن منذ ثلاثين سنة كلَّ يوم مرَّة ، و روينا عنه أنَّه قال لابنه : يا بني ! إيَّاك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإنِّي ختمت فيها اثني عشر ألف ختمة، و روينا عنه أنَّه قال لبنته عند موته و قد بكت: يا بنية لا تبكي ، أتخافين أن يعذبني الله و قد ختمت في هذه الزَّاوية أربعة و عشرين ألف ختمة ؟ فأين نحن من هؤلاء؟
الواقع أنه علينا كذلك أن نركز اهتماماتنا في هذا الشهر الذي ترتفع فيه النفوس وتسمو فيه الأرواح على تدبر كتاب الله وعلى قراءته على مكث، فالله تعالى يشيد بالتدبر في سورة النساء وسورة محمد قائلا: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)، فالقرآن لم ينزل تعاويذ نتعوذ بها، وإنما نزل للعمل كما يقول العلامة محمد سالم ولد عدود رحمه الله، يقول السيد قطب: فالقرآن نزل للأمة قاعدة للعمل.
والله تعالى خلق هذا الزمان وهو مخلوق تقدر به أعمارنا وتحصى فيه أعمالنا، وفضل بعضه على بعض، وهذا الزمن آية ثابتة لتعلموا عدد السنين والحساب، من ساعة ليوم لشهر لسنة، وهو خلفة لمن أراد أن يذكر وأراد شكورا، فلننعم بهذا الشهر الفضيل ولتنسابق إلي جدول أعمال نقدمه بين يدي هذا الشهر لحفظ ضائع من القرآن، أو لحفظ سور جديدة بالنسبة لمن لا يحفظ، أما من أنعم الله عليه بحفظه فعليه بالتكرار والتدبر، فإن ذلك مكفر للذنوب، وعليك أيها المرء أن لا يخيفك إلا ذنبك، وأن تبك على خطيئتك، فرمضان إلى رمضان مكفر للذنوب إن صمناه وصناه عن الرفث والفسوق والعصيان، والانكباب على طاعة الله تعالي.
إن المقصد من هذا الصيام والقيام هو التقوى، التي بها يرتقى الإنسان إلى درجة الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، باعتبار أنه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، والتقوى هي انتصار للخير على الشر وغلبة النفس لإرادة الخير، وقد سجلت سورة الزخرف ذلك في قوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)، إن أكبر خطر يتهدد هذا الإنسان هو الورود إلى النار، فعليه أن يُسلم الصدر للناس، وأن يتخذ من شعار النبي صلى الله عليه وسلم: (إني صائم) قدوة للتسامح والعفو والصفح، قال ابن القيم: فعلى قدر نية العبد ومراده تكون إعانة العبد، فالإخلاص في القول والعمل هو روح الطاعات، وعلينا أن نسعى أن لا نخرج من هذه المدرسة الرمضانية إلا بارتقاء في السلوك والأذواق فبذلك نكون فهمنا واستفدنا، ولنبادر إخوتي الكرام ولننتهز فرصة تصفيد مردة الشياطين هذه، والنتعرض لنفحات الله، فأبواب الجنة مفتوحة وأبواب النار مغلقة، وإننا ندعوه ضارعين إليه ونسأله أن يعيننا ويوفقنا على مالم يصفد من شياطين الإنس والجان، وأن يحفظنا منهم، وأن يعيننا على طاعته ويوفقنا لمرضاته ويتقبل أعمالنا ويجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.