في رسالة حب نزار قباني إلى والدته التي أرسلها لي لينشرها وأحتفظ بها بخط يده، كتب نزار لأمه من مدريد قصيدة مؤثرة تسيل حنيناً إلى دمشق وهي «خمس رسائل إلى أمي» نشرت في السبت الماضي 4 رسائل منها وأتابع اليوم نشر رسالته الأخيرة:
أتى أيلول يا أماه
وجاء الحزن يحمل لي هداياه
ويترك على نافذتي
مدامعه وشكواه
أين دمشق؟ يصرخ نزار قباني
أتى أيلول أين أبي وعيناه
وأين حرير نظرته
وأين عبير قهوته
سقى الرحمن مثواه
وأين رحاب منزلنا الكبير
وأين نعماه؟
وأين مدارج الشمشير تضحك في زواياه؟
وأين طفولتي فيه؟
أجرجر ذيل قطته
وآكل من عريشته
وأقطف من (بنفشاه)
على حدقات أعيننا كتبناه
ويا طفلاً جميلاً من ضفائره صلبناه
جثونا عند ركبته
وذبنا في محبته
إلى أن في محبتنا قتلناه..
رسائل بريئة.. ملغومة!
في قصيدته الطويلة «خمس رسائل إلى أمي» (التي ما زلت أحتفظ بها بخط يده) كما ذكرت، يتجلى حنينه إلى دمشق، ويقول عن الوطن سوريا:
ويا طفلاً جميلاً من ضفائره صلبناه
إلى أن في محبتنا قتلناه!
أهذه رسالة إلى أمه أم شبه نقد سياسي؟
وقد تكون مشاعر نزار السياسية الخفية تسللت إلى رسائله لأمه، لكن تلك الرسائل تسيل أولاً طفولة وحباً وحنيناً لدمشق..
لحظة حنين تحق لي مثل نزار!
لعلي احتفيت برسائل نزار القديمة إلى أمه لأن الحنين لا يشيخ بل يزداد عنفواناً وشباباً مع الزمن.. وأنا مثل نزار أحن إلى دمشق.. أتخيل نفسي أقود سيارتي في طريق العودة إلى دمشق من بيروت، ترى هل سأعرف الطريق إلى بيتي القديم في ساحة النجمة وبيت نزار؟ هل سأعرف الدرب إلى مدرستي القديمة حين كنت طفلة مدرسة «الفيحاء» في بوابة الصالحية، والتجهيز الأولي للبنات والمدارس كلها التي درست فيها؟ هل سأعرف الطريق إلى جامعة دمشق التي تخرجت منها؟
الحلبوني ومحطة الحجاز وحانوت قباني
أتذكر أنني (اخترعت) النوم وأنا أمشي حين كنت طفلة، إذ كان أبي يصطحبني لزيارة عمتي في حي الحلبوني الشامي، وأصاب بالنعاس على الرغم من غزل قطتها لي، ونغادرها ونمر بمحطة الحجاز ثم ننحدر صوب جسر نهر بردى ونمشي صعوداً وأنا أمشي نائمة حتى نصل إلى الحانوت الكبير لوالد نزار قباني، ويحملني والده العم توفيق صاحب أشهر سكاكر وحلويات وشوكولاتة في دمشق يومئذ، ويسألني ماذا أحب أن آكل وأستيقظ منتعشة وألتهم كل ما تقدر على التلذذ به طفلة.
نزار تذكر دمشق بحنين وأنا أيضاً!
أتذكر طريق الصالحية و»الجسر الأبيض» و»أبو رمانة»، أتذكر القصاع، وباب توما، ومقبرة الدحداح، وقاسيون الذي كنت أتسلقه مع أبي حتى (قبة السيار) وإذا عدت اليوم إلى دمشق سأذهب أولاً لزيارة قبر الحبيب أبي.. في «الباب الصغير».. أعتقد أن الحنين من محركات الكتابة الإبداعية كما في قصيدة نزار الطويلة «خمس رسائل إلى أمي» التي حركت أشواقي إلى مدينتي الأم..
وأتذكر أيضاً أن نزار قباني أحب شجاعة أمي في الكتابة في ذلك الزمان ولو باسم مستعار، وأتذكر الرثاء المبدع لها الذي كتبه بصدق وألقاه بشجاعة على «مدرج جامعة دمشق» في حفل تأبينها، وهي قصيدة كتبها وكان في العشرينيات من عمره، وكنت (لحسن حظي) طفلة لا تعرف ما هو الموت وما هو موت أمها، وهي قصيدة موزونة مقفاة في 80 بيتاً ألقاها نزار وهاجم فيها (الذكور) الشوام، فقد كان نزار شاعراً متمرداً على القبيلة، وقد اطلعت عليها حين أعطاني أبي أياها بعد أعوام طويلة حين صرت في العشرين من العمر، وهي بخط يد نزار.
رثاء نزار لوالدتي التي لم أعرفها!
من قصيدة نزار التي نشرتها كاملة وبخط يده في مجلة «الحوادث» يتجلى انحيازه إلى المرأة المبدعة، ونكاد ننسى أنه هو نفسه الذي كتب مرة أنه (خيّطَ من جلد النساء عباءة وعمّر هرماً من الحلمات) على النقيض من رسائله إلى أمه ورثائه لأمي، ومما جاء في ذلك الرثاء الذي ألقاه في مدرج جامعة دمشق في حفل تأبينها:
بعد عينيك مات حلو رنيني
والغنوج الممراح من تلحيني
إيه يا سمرائي الشهيدة.. لم أخلفت
وعدي والعهد أن تصدقيني
وحدنا كان أن ألاقيك في البشر
وكان اللقاء في التأبين
نطقك الحلو أي نهر نبيذ
يتحدى النايات في التبيين
في الثلاثين يوم لفلفك الموت
عروساً لم تفرحي بالسنين
مصرع الشيخ.. يستهان.. ولكن
لم تهن قط ابنة العشرين..
ويضيف نزار عن لسان أمي وكنت طفلة يوم رحيلها:
إيه يا غادتي الحبيبة أنت
العمر أنت الأضواء تهدي عيوني
وقد عرف نزار أمي بحكم القرابة العائلية ورحلت في الثلاثين من العمر، ورثاها باحترام ورقة، ولم يكن نزار يوماً (زير نساء) كما يفسر البعض شعره. قصائد نزار إلى أمه، وفي رثاء أمي، تستحق أن يحافظ عليها أدبنا العربي كجزء من تراث شاعر كبير اسمه نزار قباني، وقد أنشرها في كتاب بخط يده مع بعض رسائله لي.. ولن أحرق يوماً سطراً مبدعاً أياً كان ذلك غير مستحب في أدبنا العربي.