رغم صدور القانون 044 عام 2010، المتضمن لمدونة الصفقات العمومية، والذي ينص على إنشاء سلطة تنظيم الصفقات العمومية، ويفصل الطرق القانونية للحصول على الصفقات وآلية رقابتها ويحظر إجراء صفقات التراضي، إلا في الحالات الاستثنائية المنصوص عليها في المادة 32، كالكوارث الطبيعية.
رغم كل ذلك ما تزال الدولة الموريتانية متمثلة في الحكومات المتعاقبة، تتلكأ في تطبيق هذا القانون، وتفضل طريقة التراضي التي تفتح الباب الكبير أمام إهدار المال العام، وانتشار أشكال الفساد، كعمولات المسؤولين الحكوميين، والتربح الكبير لبعض رجال الأعمال النافذين، ورداءة جودة الخدمة المقدمة، والمتضرر الأول هو المصلحة العليا.
بلغ عدد صفقات الفساد خلال الأشهر العشرة الأخيرة حسب المتوفر من المعلومات وماخفي أعظم مايزيد على 139 صفقة، زادت قيمتها الإجمالية على 30 مليار أوقية.
ولو استخدمت الطرق القانونية السليمة لتضاءل المبلغ، وهو ما كان سيوفر لخزينة الدولة عدة مليارات تساعدها في بناء عشرات المدارس وتمويل عشرات المشاريع للشباب العاطل عن العمل، وتوفير عديد الأجهزة الضرورية لبعض النقاط الصحية في القرى النائية، لكن هذا المبلغ للأسف ذهب إلى بطون المتنفذين، وما يأكلون في بطونهم إلا النار.
وقد تم خرق المادة 31 من قانون الصفقات، والتي تلزم الحصول على إذن من لجنة رقابة الصفقات قبل إبرام أي صفقة تراض، وهو ما لم يحدث مطلقا. وحسب المعلومات المتوفرة لدينا، فإن أهم القطاعات التي حصلت فيها صفقات للتراضي، وزارة التجهيز والنقل (منحت شركة ATTM صفقات إنشاء أرصفة بطريقة غير قانونية، لمقربين من نافذين، وتبلغ قيمتها 10 مليارات أوقية، مخصصة لإنشاء أرصفة في عواصم الولايات).
كما منحت وزارة الداخلية عدة صفقات للتراضي بلغت قيمتها المالية عشرات الملايين مع شركة واو، وشركة سارا إتابليسماه، وقامت نفس الوزارة مؤخرا بإبرام صفقة تراض ضخمة مع شركة فرنسية تسمى IDEMIA، وبلغت قيمة الصفقة 680 ألف يورو، أي ما يناهز 280 مليون أوقية قديمة، من أجل إجراء صيانة قاعدة بيانات الوكالة الوطنية للوثائق المؤمنة، وهو رقم ضخم جدا حسب رأيي كخبير في المجال.
تنتشر أيضا صفقات التراضي في عدة مؤسسات أخرى كصوملك وشركة المياه. كما قامت مندوبية تآزر المستحدثة أخيرا أو بالأحرى المغير اسمها، بعديد من صفقات التراضي مع IGIP AFRIQUE و CRDES وعدة مؤسسات أخرى بغلاف مالي يتجاوز أربعة مليارات أوقية، وقامت بعدة اكتتابات بدون مسابقات، في القطاع الزراعي أيضا منحت صفقة مؤخرا بطريقة غير قانونية لمتنفذ بلا ضمير استجلب بذور و أسمدة فاسدة من الهند و هو ما أدى لفشل المشروع حتى الآن والذي تزيد قيمته الإجمالية على 40 مليار أ قية.
الأمثلة على صفقات الفساد والاكتتابات والتوظيف غير القانوني لا حصر لها في عديد من المؤسسات الحكومية.
لا يزال مستوى الرقابة على الصفقات العمومية ضعيفا جدا رغم الترسانة القانونية ورغم وجود عديد المؤسسات الرقابية (البرلمان، محكمة الحسابات، اللجنة الوطنية لرقابة الصفقات، المفتشية العامة للدولة والمفتشيات الداخلية التابعة للوزارات) التي يعود ضعف أدائها لغياب الإرادة السياسية التي تعتبر أحد أهم العوامل المؤثرة على أداء الموظف الحكومي وضعف الكادر البشري بها، الذي يتم في الغالب اختياره على أسس غير سليمة لا تراعي حجم المسؤولية ولا المصلحة العمومية رغم وجود موريتانيين أكفاء من كل الجهات والفئات.
تستخدم الأنظمة الفاسدة هذا النوع من الصفقات لخلق طبقة جديدة من رجال الأعمال، وترد الجميل لآخرين دعموها وسيدعمونها خلال الحملات الانتخابية. كما يسهل هذا النوع من الصفقات على المسؤولين الكبار في الدولة، إنشاء شركات وهمية يتربحون من خلفها ويبرمون صفقات مع أنفسهم، ويبقى صغار المقاولين والمستثمر الأجنبي ضحايا لهذا الفساد المستشري.
ولا تزال السلطة العليا في البلد تغض الطرف عن هذه الممارسات وتفضل مسايرتها عكس محاربتها، كأغلب المشاكل الكبرى المتعلقة بالتعليم والصحة والتشغيل وتساوي الفرص، التي مازالت تتم مواجهتها بكثير من التردد وغياب الرؤية وعدم الحزم .