ألزمت جائحة كورونا الناس في هذه السنة وضعَ الكمامات سترا للفم والأنف اتقاء نقل العدوى عن طريق هاتين الحاستين، فأعادت بذلك اللثام والاهتمام به. وليس اللثام بالغريب على موريتانيا المعروف تاريخيا أنها بلاد الملثمين، فمن هذه البلاد أسست قبائل صنهاجة دولة المرابطين، وتعرف صنهاجة بقبائل اللثام لملازمتهم وضع اللثام وستر الوجه. قال أبو محمد بن حامد الكاتب وهو شاعر أندلسي كما ذكر ابن خلكان في الأعيان:
قوم لهم شرف العلا في حمير وإذا انتموا لمتونةً فَهُمُ هُمُ
لما حووا عليَاءَ كلِّ فضيلةٍ غلب الحياءُ عليهمُ فتلثمو
الملثمون واللثام في بلاد شنقيط
لفظ الملثمين تطلقه المصادر العربية الوسيطة على القبائل الصنهاجية التي تنتجع فضاء الصحراء الغربية والوسطى، من بينها قبيلة لمتونة وكدالة ومسوفة التي كانت مهد حركة المرابطين، والتي انطلقت من هذا الصحراء الموريتانية. ولا شك أن لفظ "الملثمين" يطلقه المؤرخون العرب على هذه القبائل الصنهاجية، والتي تجعل من اللثام عادة مرتبطة بالأزياء تميز رجال هذه القبائل، ويتعلق الأمر باللثام الذي يغطي الوجه وخاصة الفم. ولا يزال هذا اللثام حاضرا اليوم ومستعملا من طرف الأجيال اللاحقة من أحفاد هؤلاء البداة الصحراويين، وخاصة من قبل الطوارق.
وهذا اللثام عبارة عن قطعة من القماش طويلة يلفه الرجل حول الرأس حتى يغطي الجبهة والفم بحيث لا يبقى بارزا إلا محاجر العينين. واللثام بهذا الشكل لا يضعه إلا الرجال البالغون.
والتوصيف الوحيد للثام الذي نجده في المصادر العربية الوسيطة أورده المؤرخ والجغرافي الأندلسي أبو عبيد البكري، وقد كتبه سنة 1068م. يسمي البكري ذلك اللثام باللفظ العربي "النقاب"، وهو يوضح أنه نقاب لا يبدو منه إلا محاجر العينين، ويغطي الوجه أكثر من اللثام المعروف.
ولمن يريد التوسع في تاريخ اللثام فعليه بمطالعة الدراسة الشاملة التي أعدها الباحث الإيطالي رافائيل كورتشيو (Raffaele Corso) عن اللثام عند طوارق منطقة فزان بليبيا.
وأول إشارة في المصادر العربية حول اللثام تؤكد أن وضعه كان سنة متبعة عند قبيلة أنبية التي نعتقد أنها كانت تسكن مجال موريتانيا الحالي، وقد وثق ذلك الرحالة اليعقوبي المؤرخ والجغرافي (توفي سنة 284هـ (897م) في كتاب البلدان عند حديثه عن طول الطريق بين سجلماسة بالمغرب وبلاد السودان، يقول عند حديثه عن تلك الصحراء: ثم يلقاه قوم يقال لهم أنْبَيَّةَ، من صنهاجة، في صحراء ليس لهم قرار شأنهم كلهم أن يتلثموا بعمائمهم، سنة فيهم.
أما الرحالة البغدادي ابن حوقل الذي وضع عصا التسيار في الصحراء الموريتانية في منتصف القرن العاشر، فقد لاحظ هذه العادة عند رجال قبيلة مسوفة في منطقتي ولاتة وتغازة ورجال قبيلة صنهاجة فقال في كتابه صورة الأرض: "لم ير لأحدهم ولا لصنهاجة مذ كانت من وجوههم غير عيونهم وذلك أنّهم يتلثّمون وهم أطفال وينشؤون على ذلك ويزعمون أنّ الفم سوءة تستحقّ الستر كالعورة".
وحسب مؤلفين آخرين من العصر الوسيط فإن من بين القبائل التي تضع اللثام قبيلتان هما: گدالة ولمتونة، وتؤكد بعض المصادر أن كل الشعوب الصنهاجية التي تسكن الصحراء من المحيط الأطلسي إلى غدامس بليبيا تضع اللثام.
يقول المؤرخ الأندلسي المعاصر لدولة المرابطين أبو عبيد البكري في كتابه المسالك والممالك ما نصه: "وجميع قبائل الصحراء يلتزمون النقاب وهو فوق اللثام حتى لا يبدو منه إلا محاجر عينيه، ولا يفارقون ذلك في حال من الأحوال ولا يميز رجل منهم وليّه ولا حميّه إلا إذا تنقب وكذلك في المعارك إذا قتل منهم القتيل وزال قناعه لم يعلم من هو حتى يعاد عليه القناع، وصار ذلك ألزم لهم من جلودهم وهم يسمون من خالف زيّهم هذا من جميع النّاس أفواه الذبان بلغتهم."
وفي بداية القرن السادس عشر الميلادي وصل إلى صحرائنا هذه الرحالة الحسن الوزان المعروف في الكتابات الأوروبية بليون الأفريقي والذي يقول في كتابه وصف إفريقيا عن صنهاجة: "يضع أشرافهم على رؤوسهم لثامًا أسود يحجبون بطرف منه وجوههم".
الأسطورة المؤسسة للثام
تتضارب تفسيرات المؤرخين في العصر الوسيط حول بداية اتحاذ قبائل صنهاجة للثام، ففي المشرق نجد المؤرخ الموصلي ابن الأثير (توفي 630هـ) يورد في كتابه الكامل قصة تقول إنّ قوما من لمتونة خرجوا للغزو فخالفهم عدوٌ آخر إلى مضاربهم، ولم يكن بها غير الأطفال والنساء، فأشار الشيوخ على النساء بالتلثم وحمل السلاح لإرهاب العدو، ففعلن فظنّهم العدو رجالاً مسلّحين، فساق الأنعام من المراعي وعدل عن غزو المضارب، حتى أدركه رجال القوم فحاربوه وطردوه، ومنذ ذلك العصر اتخذت لمتونة اللثام سنّة للتبرك به. ويعلق ابن الأثير بقوله: فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنّة يلازمونه، فلا يعرف الشيخ من الشاب. فلا يزيلونه ليلاً ولا ﻧﻬارًا.
أما في المغرب فنجد صاحب الحلل الموشية يذكر سببًا مغايرًا لما ذكره المؤرخ المشرقي ابن الأثير، فقبائل صنهاجة كانت قد هاجرت من اليمن إلى إفريقية، وهذا السفر الطويل الشاق قد فرض عليهم اتخاذ اللثام، فكانوا أوّل من تلثم؛ لانتقالهم من قطر إلى قط حتى صاروا بالمغرب الأقصى، بلاد البربر، فاحتلوا به، واستوطنوه، وصار اللثام زيّهم الذي أكرمهم الله به، ونجاهم لأجله من عدوهم، فاستحسنوه، ولازموه، وصار زيّا لهم ولأعقابهم لا يفارقونه إلى هذا العهد. وإنّما تبربرت لسانهم لمجاورة البربر، وكونهم معهم، ولمصاهرتهم إياهم. هكذا جاء في الحلل الموشية في الأخبار المراكشية.
أهمية اللثام ووظائفه
من الطبيعي لساكنة الصحراء، ممن اتخذوا السماء لحافا، وأغلب أوقاتهم ينتجعون مساقط الغيث وهم في حل وترحال دائمين، متعرضين لحر الصيف وقر الشتاء أن يكون للثام مكانة في حياتهم وأهمية في ملبسهم، فاللثام كان أداة تقي من قر الشتاء وحرّ الصيف، وتمنع العينين من الغبار المتناثر جراء الزوابع الرمليّة المطردة مثلهم في ذلك مثل قبائل الجزيرة العربية، الذين اتخذوا اللثام. فاللثام في هذه الصحراء الشنقيطية لم يكن زيا للزينة بقدر ما كان وسيلة لاتقاء تقلبات البيئة الصحراويّة.
وللرحالة البغدادي ابن حوقل ملاحظة لا تخلو من طرافة وهي ان قبائل صنهاجة يزعمون أنّ الفم سوءةٌ تستحق الستر كالعورة لما يخرج منه، إذْ ما يخرج منه عندهم أنتن ممّا يخرج من العورة؛ لذلك كان أولى بالستر. وهذا الرأي لا يخلو من غرابة.
وقد صاغ المؤرخ الدمشقي ا لذهبي (توفي 748هـ / 1348م) في كتابه تاريخ الإسلام ما ذهب إليه ابن حوقل حين نقل عن شخص دمشقي يسمى عزيز يتحدث عن بعض اللمتونيين ممن كان يسكن دمشق بعد سقوط دولة المرابطين: وما رأيته عيانا أنه كان لي صديق منهم بدمشق، وبيننا مودة. فأتيته، فدخلت وقد غسل عمامته، وشد سرواله على رأسه، وتلثم به. هذا بعد أن انقضت دولتهم، وتفرقوا في البلاد. ويضيف الذهبي: وحكى لي ثقة أنه رأى شيخا من الملثمين بالمغرب مترديا في نهر يغسل ثيابه وهو عريان، وعورته بادية، ويده اليمنى يغسل بها، ويده اليسرى يستر بها وجهه. وقد جعل هؤلاء اللثام جنة، فلا يعرف الشيخ منهم من الشباب، فلا يزيلونه ليلا ولا نهارا، حتى أن المقتول منهم في المعركة لا يكاد يعرفه أهله، حتى يجعلوا على وجهه لثاما.
وقد أعطى الباحث الجاد أخونا الدكتور الناني ولد الحسين تفسيرا مفيدا لستر الفم عند صنهاجة حين يقول: إن صنهاجة يعتقدون أنّ الجنّ ينشر الأمراض في الفضاء، وهذه الأمراض تصيب الإنسان عبر فمه وأنفه، ولذلك يجب أن يحتاط الرجال بتغطية أفواههم وأنوفهم، وستر وجوههم وأفواههم "بلثام محكم خشية تسرّب الأرواح الشرّيرة لجنود الملكة إلى أجسادهم"، ومن الطبيعيّ أن يكون الأمر متعلّقًا بالرجال فقط فالمرأة في اعتقادهم لديها صلة قويّة بالأرواح وبالجنّ عبر السحر وبالتالي فهي محصّنة من هكذا أخطار.
لا شك فيه أن للثام وظائف عمليّة فرضها المناخ الصحراوي، فهو يقي من الحر ومن البرد ومن الغبار، ومع هذا فقد اكتسب اللثام وظائف جديدة اجتماعيّة وثقافيّة. فاللثام وطريقة وضعه ونوعية قماشه ولونه صار مع الوقت وسيلة لتحديد فئة الشخص الاجتماعية؛ لذلك لا نعجب إذا رأينا ابن خلدون يربط بينه وبين قبائل صنهاجة الصحراء قائلا: "واتخذوا اللثام خطاماً تميزوا بشعاره بين الأمم" فاللثام يعبر عن خصوصية إثنية وأصل اجتماعيّ وتقليد ثقافي.
أزياء موريتانية موازية للثام
إلى جانب اللثام المتجذر في الحياة الاجتماعية والثقافية الموريتانية القديمة كان هنالك أزياء أخرى مما يغطى به الرأس مثل "الگلمز" وجمعه اگلامز هو القبعة توضع على الرأس، واللفظ أمازيغي وأصله أگلموس وجمعه إگلماس. وكان الگلمز زيا شنقيطيا حاضر في القرن التاسع عشر، فقد ذكر المختار بن حامدٌ في كتابه الأغاني والمغنين أن المطربة عيشه بنت إبراهيم بن أعمر بن اعلي وأركان، وكانت مطربة مشهورة من مطربات القرن التاسع عشر بارعة في أدائها الفني، كما كانت على مكانة عالية من الثقافة والتدريس، فكان لها طلاب تدرسهم القرآن والعلم. ومما ذكر ابن حامدٌ في كتابه هذا أن عيشه بنت اعلي وركان هذه كانت تسافر إلى مواسم التجارة الأوروبية قرب الشاطئ الأطلسي، وكان أمراء الترارزة وخفراء السفن يكرمونها ويغدقون عليها الهدايا، وكانت تنظم حفلات غنائية في تلك المواسم. وكثيرا ما لجأ إليها أصحاب المظالم فأنصفتهم ممن أخذ حقوقهم. وكان لها گلمز تضعه على رأسها، تمييزا لها وإشهارا.
وقد ذكر الشاعر الفائق امحمد بن أحمد يوره الگلمز في قطعة شعرية جميلة:
ألَا حبذا "انْكُمْبُلَّ" والدارُ دارهُ وما أنا في دار "المُخَيْنِزِ" راغزُ
فلله أيامٌ لَدَيْهِ تَسَلفتْ لَمَنْ رَجَعَتْ مناَّ إليهِ لفائزُ
فما تشتهيهُ الأذنُ للإذن قارعٌ وما تشتهيهِ العينُ للعينِ بارزُ
ونلعبُ "أسياگًا" فـ"يفطرُ" بعضنا و"يخنِز" طولَ الدهر مَنْ هو "خانزُ"
وثَمّ نواويرُ الربيع كأنها جماجمُ أشياخٍ عليها "الگلامزُ"
ومن الشعر الحساني الشهير الذي يذكر فيه اللثام:
انعود وُهاذَ ماهُ جر امنين اتغني گدامي
ماني عالم عني ينجر الثامي، ينجر الثامي
ومن الأزياء الموريتانية الأصيلة مثل مما يوضع على الرأس والمنكبين "آفروال" وجمعه آفراويل وهو قطعة قماش مربعة طولها ستة أذرع في عرض ثلاثة تقريبا تتخذه النساء مآزر كما يستعمله الرجال لباسا لتغطية الرأس والمنكبين. وأصل اللفظ من كلام أزناگه وهو "أَفَرَأْچْ" وجمعه أفَراچِنْ ومع الاستعمال تحولت الجيم المعقودة لاما وهذا كثير في كلام أزناگه.
وفي كتاب "مروگ الحرف"، وهو أول تاليف باللهجة الحسانية كتبه أحد الشناقطة في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وقد قمت بتحقيقه ونشره، أن الموريتانيين كانوا يبتاعون من الأوربيين لباسا وأقمشة من بينها: آفراويل اندر والسبنيَّه الحمراء وسمبورس. وآفْرَاوِيلْ انْدَرْ مضافة إلى تلك المدينة السنغالية الشاطئية التي كانت مرتبطة سياسيا واقتصاديا ببلادنا، وهي من أجود الأقمشة.
الأوروبيون والأزياء الموريتانية
ذكر التاجر والناشر البرتغالي فلانتيم فرنانديز الذي زار بلادنا سنة 1505 أي بدايات القرن السادس عشر أن الكثير من سكان هذه الصحراء الشنقيطية في ذلك الزمن كانوا يبلسون الجلود، ومنهم من لا يجد من تلك الجلود إلا ما يغطي به بعض الأماكن الخاصة من بدنه؛ مما يعني أن الناس كانوا في فاقة شديدة، وأن اللباس وخاصة منه القماش والمنسوجات كان نادرا. ويذكر فرنانديز من جملة ما ذكر البضائع التي يأتي بها البرتغاليون (لموريتانيا) تتكون من الستائر وألوانها الألوان العادية كالأزرق والأحمر، وهذه الستائر قماش من القطن وبأنواع شتى كالبرنس والكساء وأحايكْ بأنواعه وخصوصا الدكالي وهو أجودها نسجا، ثم الحنبل، والبرود، و"البدم" وهو سترة قصيرة بلا أكمام.
وأحايك أو الحايك قطعة من القماش ترتديه المرأة لتستر رأسها ووجهها وسائر جسدها. أما البرنس أو البرنوس فمعطف طويل من الصوف يضم غطاء رأس مذبب وليس به أكمام. وفي الشبكة صورة متداولة لأمير الترارزة اعلي ولد محمد الحبيب المتوفى سنة 1886 وهو يرتدي برنسا.
وممن الأزياء التقليدية في هذه البلاد "السبنية" وهي لفظ من كلام أزناگه كما في كتاب فيديرب عن البربرية في موريتانيا. والسبنية منديل من الحرير لونه أحمر وفيه تصاميم زاهية الألوان مشرقتها. وتضعها البنات يوم الزينة ويعقد طرفها في رقبة البنت ويدلى الطرف الثاني إلى جهة ظهرها.
خاتمة:
لعل اللثام كان من أقدم الأزياء التي ارتبطت بالمجتمع الموريتاني في مساره الزمان وامتداداه المكاني، فكان بذلك شعار دولة المرابطين التي انطلقت من هذه الأرض وامتدت إلى أجزاء واسعة من أقطار المغرب فضلا عن الأندلس. وفضلا عن اللثام استجلب الموريتانيين أنواعا عديدة من المنسوجات البرتغالية في القرن السابع عشر الميلادي كالبرنس والكساء وأحايك والبردة وهي أمور لم تعد مألوفة اليوم ولا حتى في النصف الأخير من القرن العشرين. كان فرنانديز مبعوثا من طرف ملك البرتغال مانويل الأول (Manuel Ier d'Aviz)، وهو المشهور في الأدبيات الأوروبية بمانويل الثري، وهو الذي بنى الإمبراطورية الاستعمارية البرتغالية. وكان يمتلك مرسيين اثنين هامين أحدهما في حوض آرگين ببلادنا والثاني على شواطئ غانا قرب العاصمة آكرا.
للاتصال بالكاتب