يعتبر مختصر خليل في الفقه المالكي ثمرة لجهود بذلها تلامذة إمام دار الهجرة ( مالك بن أنس ) في جمع المدونة ، وتنقيحها ، وشرحها ..
ومعلوم أن المدونة هي الواجهة الحقيقية ، والممثل الفعلي لمذهب أهل المدينة ، لأنها تتجسد فيها أقوال، وفتاوي ذلك الامام النجم ، الذي نوه النبي صلى الله عليه وسلم بمكانته بقوله : ( يوشك أن يضرب الناس أكباد الابل بحثا عن طلب العلم فلايجدون عالما أعلم من عالم المدينة ).
وفتاوي إمامنا الاغر مالك بن أنس - رضي الله عنه - إنما هي امتداد لذلك المعين الزلال الذي استقاه من شيوخه المدنيين ، من أمثال : محمد بن شهاب الزهري ، وعبد الرحمن بن ذكوان - أول من دونا الحديث الشريف - وربيعة الانصاري ، وهؤلاء قد أخذوا عن الفقهاء السبعة الذين كانوا يمثلون صفوة فقهاء الامصار في ذلك الوقت ، يقول مالك : سمعت بن شهاب يقول : " جمعنا هذا العلم من رجال في الروضة ، هم: سعيد بن المسيب ، وأبوسلمة ، وعروة بن القاسم ، وسالم ، وخارجة ، وسليمان ، ونافع .
وقد اعتمد الفقهاء السبعة في بناء فقههم على مرويات الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالإضافة إلى فتاويهم ، واجتهاداتهم ،
وأبرز من تتلمذ عليهم هؤلاء من أجلاء الصحابة هم : عمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، والسيدة عائشة - رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم -
وفي هذا الإختصاص يقول الامام مالك : " كان أعلم الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت ، وكان إمام الناس عندنا بعده ، ابن عمر ، وكان سعيد بن المسيب جل مايفتي به من فتاوي زيد "
على هذه الأسس انبنت الطريقة المدنية التي يتمثل منهجها عند الإمام مالك في الإعتماد على القرآن الكريم ، ثم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسنة أهل المدينة التي تأخذها كل طبقة عن الطبقة الأخرى، وعلمهم المستمر المجمع عليه من لدن عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو ما يعبر عنه الإمام مالك في الموطإ بقوله : " السنة عندنا ، أو السنة التي لاخلاف فيها عندنا ، أو أدركت الناس يفعلون كذا "
بالإضافة إلى ترجيحاتهم في مواطن الإختلاف .
وفي وصف هذا المنهج يقول ولي الله الدهلوي - رحمه الله - : وكان سعيد بن المسيب وأصحابه يذهبون إلى أن أهل الحديث أثبت الناس في الفقه ، وأصل مذهبهم فتاوي بن عمر ، وعائشة ، وبن عباس ، وقضايا قضاة المدينة ، فجمعوا من ذلك كله مايسره الله لهم ، ثم نظروا فيه نظرة تفتيش واعتبار ، فما كان مجمعا عليه بين العلماء في المدينة ، فإنهم يعضون عليه بنواجذهم ، وما كان فيه اختلاف عندهم ، فإنهم يأخذون بأقوى المسائل فيه ، وأرجحها ، إما لكثرة من ذهب إليه منهم ، أو لموافقته لقياس قوي ، أو تخريج صريح من الكتاب ، والسنة ، ونحو ذلك ، وإذا لم يجدوا فيما حفظوا منهم جواب المسألة خرجوا من كلامهم ، وتتبعوا الإيماء ، والإقتضاء ، فحصل لهم مسائل كثيرة من كل باب .
وقد التزم الامام مالك بهذا المنهج بعد تنقيحه ، وتهذيبه ، فكان يعتمد في فتواه على القرآن الكريم ، فالحديث الشريف ، فإجماع أهل المدينة ، وإذا اختلفوا في مسألة كان يتخير من بين أقوالهم .
وهذا المنهج المميز هو الذي أكسب مالكا الموسوعة العلمية التي عرفت عنه ، حيث جمع في معرفته بين الحديث النبوي ، والسنة المدنية ، فضلا عن القدرة الفقهية ، والفهم النافذ الذين كان يواجه بهما قضايا الناس ، ومسائلهم .
وقد انعكس هذا المنهج على طريقته في التدريس ، حيث كان له مجلس في الحديث ، وآخر للفقه ،
وقد أودع ذلك مصنفه المشهور ( الموطأ)
الذي جمع فيه ببراعة ، وتوازن بين الحديث ، والفقه ، وضمنه آراءه ، واستنباطاته ، وترجيحاته ، إضافة إلى محفوظاته من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة رضي الله عنهم .
ولما كان مذهب المدينة -المتجذر في فقه الصحابة - يتلخص في عملين جليلين ، هما : ( المدونة ) التي تعتبر الرأي الأخير لمالك ، والتي يقول عنها الإمام سحنون : " عليكم بالمدونة فإنها كلام رجل صالح ورأيه " وكان يقول : " إنما المدونة من العلم بمنزلة أم القرآن من القرآن ، تجزئ عن غيرها ، ولايجزي غيرها عنها "
والثاني كتاب ( الموطإ ) الذي جمع فيه بين الفقه ، والحديث ، والذي قال عنه الامام الشافعي - رحمه الله - " أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى كتاب الموطإ "
فإن الشيخ خليل بن اسحق استطاع أن يأتي بزبدة هذين الكتابين ( الموطإ ، والمدونة ) وليس لهما فقط ، بل لكل الشروح التي وضعت عليهما ،والمختصرات الفقهية التي تدور في فلكهما ، وذلك من خلال مختصره الشهير المعروف ( بمختصر خليل ) الذي شكل آخر حلقة في تاريخ الاختصار في المذهب المالكي ، إذ عمد من خلاله إلى وضع اللمسات الأخيرة على منهج الاختصار الذي انطلقت بذرته مع ابن عبد الحكم والبرادعي وابن شاس ، ونمت نبتته واشتدت مع ابن الحاجب ، ووصلت إلى نضجها مع الشيخ خليل ، الذي استغلظت على يديه ، واستوت على سوقها بفضل جهوده الجبارة ، فطبعها بطابعه الخاص ، وترك عليها بصماته المميزة للحقبة الاخيرة من الإختصار ( الاختصار المحكم )
وذلك ليجمع أكبر قدر ممكن من مسائل فقه مذهب إمام دار الهجرة ، في عبارات وجيزة ، تختزل المسافات .. فجاء مختصره عصارة ، وزبدة لأمهات كتب المذهب .
وقد نجح في جمعه للمسائل المستبحرة من أبواب الفقه في مجال العبادات والمعاملات ، وذلك مع حسن التنظيم ، والعناية بالمباني ، والاسلوب ، وسلامة التعبير اللغوي ، ودقته ، ورشاقته ، رغم ازدحام الألفاظ ، واكتناز الجمل والعبارات .
ولهذا كان مختصره نزرا في ألفاظه ، غزيرا في معانيه ، دقيقا في سبكه، فريدا في اصطلاحاته ، بديعا في أسلوبه ، جامعا لمعظم مسائل فروع أمهات المذهب المالكي ، سواء تعلق الامر بالدواوين القديمة التي تركزت على السماعات من الامام مالك مثل : ( الموطإ ، المدونة ، العتبية ، الموازية ، المستخرجة ، المجموعة ، الواضحة ، المبسوط )
أو التي عليها المدار في مرحلة التطور في الفقه النظري ، أو التطبيقي للمتقدمين ، والمتأخرين من أصحاب المذهب مثل : ( التفريع ، النوادر والزيادات ، التبصرة ، البيان والتحصيل ، المقدمات ، الوثائق والشروط ، المقنع في اصول الاحكام ، طرر ابن عات ، نوازل الاحكام ، عيون الادلة ،الجامع لابن يونس التنبيهات للقاضي عياض ، والمنتقى بشرح المطا للامام الباجي )
ولهذا قال العلماء إن مختصر العلامة خليل قد حوى مائة ألف مسألة منطوقا ، ومثلها مفهوما ، وهذا لاشك من باب التقريب ، وإلا فإنه قد جمع أكثر من ذلك بكثير ، بل قال الهلالي : " فيه المسألة الواحدة التي تجمع ألف ألف مسألة ، مع أن مختصر ابن الحاجب ، قال ابن دقيق العيد إنه جمع أربعين ألف مسألة .
ونظرا لهذا ازدادت شهرة مختصر خليل داخل المذهب المالكي ، وخارجه ، لأن مؤلفه برع فيه و أتى بالعجب العجاب ، من حيث الايجاز ، والمقدرة الذهنية على استيعاب المسائل في ألفاظ جزلة ، مختصرة ، جمع فيها شتات العلوم على تنوع وغزارة ، متوخيا المشهور ، والراجح ، مبتعدا عن الخلاف ، والأقاويل الضعيفة ، والشاذة ،
فهو أوعب مختصرات السادة المالكية ، وأكثرها استيفاء لمسائل الفقه ، الشيء الذي لفت الأنظار إليه ، وجعله يتسنم ذروة الاهتمام ، ويحتل الصدارة ، ويحرز الريادة ، وينال قصب السبق في ميدانه .
وهنا يمكن أن نسجل بعض المزايا التي جعلت المختصر يتسنم الذروة ويتبوأ المكانة السامقة في الأوساط العلمية ، وينال الحظوة لدى العلماء وطلبة العلم في كل الأقطار /
1- كون العلامة خليل أحد الجهابذة الأفذاذ الذين خدموا فكرة جمع المذهب واختصاره وعلى يده بلغت عملية الإختصار منتاها .
2- تمكنه من ناصية اللغة مع براعته في توظيفها وحسن استعمال الألفاظ والتراكيب .
3- القدرة على الإحاطة بالفروع مع حسن النسق والترتيب .
4- القدرة على جمع النظائر الفقهية .
5- اقتصاره على الراجح والمشهور المفتى به في المذهب حسما للخلاف المذهبي ، وهو التزام قطعه المؤلف على نفسه استجابة لرغبة من طلبوه تأليف المختصر ، وذلك حين ما قال في مقدمة كتابه : " وبعد فقد سألني جماعة أبان الله لي ولهم معالم التحقيق وسلك بنا وبهم أنفع طريق مختصرا على مذهب مالك مبينا لما به الفتوى فأجبت سؤالهم بعد الاستخارة "
وهذا هو ما أشار له تلميذه الامام ابن فرحون في الديباج بقوله : ألف مختصرا في المذهب قصد فيه إلى بيان المشهور مجردا عن الخلاف .
ذلك أن الاختلاف داخل المذهب متشعب والاجتهادات فيه كثيرة وجلها لايخرج عن قواعده فيحتار غير مجتهد الترجيح في الاختيار .
6- تنوع مصادره التي استقى منها مختصره والتي تصل إلى العشرات من أمهات المذهب وشروحها ، حيث احتوى على أكبر كم من الفروع لم يتضمنه مصنف مثله .
7 - إعادة الاعتبار للمنهج المالكي الصرف بعيدا عن تأثير مسلك الشافعية في التأليف الذي ابتدعه ابن شاس قصد تبسيط الفقه وإعادة صياغته لتسهيل الاستفادة منه .
ولعل اعتماده في جلب الاقوال والترجيح على أربعة من أقطاب المذهب : ( ابن رشد ، اللخمي ، المازري ، ابن يونس ) يخدم فكرة الابتعاد عن المصادر ذات الصلة بالمذاهب الاخرى إلا في النواحي الشكلية .
8 - نجاحه في عملية الاختصار ، حيث اعتمد أسلوبا يقوم على الاختصار المفرط وحذف كل حشو وزيادة ، مثل حذف التعريفات واعتماد النكرات ، والاكتفاء بالضمائر المتصلة التي ترجع إلى المضافات المحذوفة وجعل الرموز والاشارات مكان الاطناب والتفصيلات .
هذه المزايا وغيرها هي التي رفعت هذا المختصر عاليا وجعلت العلماء يفتحون له صدورهم ويفسحون له المجال في حلقاتهم فعكفوا عليه شرحا وتدريسا واستظهروه حفظا كما يستظهرون القرآن، لدرجة أنهم منحوه أل العهدية ، فإذا أطلق لفظ المختصر من غير تقييد انصرف الذهن إليه ، وحتى صاروا " أناسا خليليين "
هذا فضلا عن المكانة العلمية لمؤلفه الجهبذ المجتهد ، والمتحلية بقمم الورع والتقوى والاخلاص والقبول مع رسوخ القدم وثناء العلماء عليه وعلى مؤلفاته ،فقد أجمعت المصادر وتتالت الاشادات بمؤلفات خليل وخاصة المختصر ، والتوضيح ، مثل قول الامام ابن غازي عن المختصر : " فهو من نفائس الأعلاق وأحق مارمق بالأحداق وصرفت له همم الحذاق ، إذهو عظيم الجدوى بليغ الفحوى مبين لمابه الفتوى ، قد جمع الاختصار في شدة الضبط والتهذيب وأظهر الاقتدار في حسن المساق والترتيب ، فما نعلم أحدا نسج على منواله ولا سمحت قريحة بمثاله " .
وقد كان الامام الحافظ ابن حجر العسقلاني أول من أعطى تحليلا دقيقا لمضمون المادة العلمية لكتابي التوضيخ والمختصر من خلال عباراته التي لقيت إشادة وتنويها من طرف فقهاء المالكية ..
ولاغروة فآراء الشيخ خليل وترجيحاته ومناقشاته مبثوثة في كتب متأخري المالكية ، ويكفيها مكانة وفخرا أن الإمام ابن عرفة يعتمدها ويناقش بها ويناظر .
فلذلك أجمع العلماء قديما ، وحديثا على صحة محتواه وقيمته الفقهية ، فأقبلوا على درسه ، وتدريسه ، وحل ألفاظه ، وشرحه إقبالا منقطع النظير ، حتى وصلت الشروح ، والحواشي ، والطرر التي وضعت عليه إلى عدد هائل يعد بالمآت .
فمنذ بداية القرن الثامن الهجري لانكاد نجد عالما من علماء المذهب إلا ورمى بسهمه في ساحة المختصر شارحا له ، أو معلقا عليه ، أو مقررا لمسائله إعجابا به ، أو اثباتا لقدراته العلمية على فك رموزه ، وحل عويصه وخوض غمار مسائله .
فمع مطلع القرن الثامن ، نجد أنه انبرى لشرح المختصر جمع من تلامذة الشيخ خليل ، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر 1- بهرام ابن عبد الله الدميري ، المتوفي ( 805 ) الذي وضع عليه ثلاث شروح ، وكان هو أول من سهل عباراته .
2- : عبد الخالق ابن علي الشهير بابن الفرات ( ت: 794 )
3- جمال الدين الأقفهسي ( ت : 823 )
4- خلف ابن أبي بكر النحريري ( ت : 818 )
5 - يوسف ابن خالد الطائي ( ت : 829 ) .
ومع مطلع القرن التاسع بدأ الإهتمام بالمختصر على أوسع نطاق ، حتى حاز الإشتغال به جل المدارس المالكية في مشارق الأرض ومغاربها فأمطروا عليه وابلا من الشروح والحواشي ، والتعليقات يضيق المقام عن ذكر بعضها فضلا عن استقصائها
ناهيك عن الإقبال الذي ناله والإهتمام الذي حظي به تدريسا، وشرحا ، ونظما من لدن علماء الجزائر ، والمغرب ، وبلاد شنقيط ، وذلك منذ القرن العاشر وحتى أيامنا هذه .
وقد جزم العلماء والمختصون في البحث الفقهي وتاريخ المذاهب الاسلامية أنه لايوجد مختصر من المختصرات في مذهب من المذاهب ، أحيط بوفرة من الشروح مثل ما حصل لمختصر العلامة خليل .
وهكذا لم يزل مختصر خليل منذ ذلك العصر الذي بزغ فيه نجمه وسطع نوره ، قبلة المتعلمين ، والدارسين ، والعلماء ، تعلما وتعليما وشرحا ونظما ، واقتباسا من بلاغته ، واسلوبه ، ونسجا على منواله .
فهو منهلهم العذب ، والسلسبيل المتدفق الذي يستقي من معين مدرسة مالك ، والتابعين ، والصحابة ، ويستمد منها الضياء ، والبرهان فأصله ثابت وفرعه في السماء ، وقد أنبت جواب كل سائل وأتى أكله ولم يظلم منه شيئا .
مما جعله يأوي إلى ركن شديد ، ويتسنم الأعالي وينال الدرجة الرفيعة والمكانة السامقة .