كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا عندما أنهيت مع الزميل الدكتور الحسين ولد مدو وضع اللمسات الأخيرة على عدد من صحيفة أخبار نواكشوط يحتوى كعنوان بارز (مانشيت) مقابلات مع زوجات الضباط المسجونين: صالح ولد حننا، وعبد الرحمن ولد ميني، ومحمد الأمين ولد الواعر،
تطرقن فيها لظروف احتجاز سجناء فرسان التغيير، وتحدثن عن القمع الوحشي الذي تعرضت له نساء السجناء أثناء محاولتهن الاحتجاج صبيحة الثاني من أغسطس أمام السجن المركزي.
غادر الدكتور الحسين وهو يحمل معه الجريدة إلى المطبعة الوطنية (قرب رئاسة الجمهورية) تمهيدا لسحبها، وغادرت أنا متوجها إلى المنزل في كرفور.
فوجئ الحسين ـ كما أخبرني ـ بقوة من الحرس الرئاسي غرب مقر البنك المركزي تمنعه من العبور، فعاد أدراجه واستطاع بعد لأي أن يصل إلى المطبعة الوطنية قادما من جهة الجنوب، حيث فاجأه عنصر من الحرس الرئاسي مسلح وهو يقترب منه ويدقق النظر داخل سيارته ثم يغادر دون كلام، وسلم الحسين الجريدة إلى عمال السحب في المطبعة الوطنية وغادر أيضا دون كلام.
أما أنا فقد وصلت إلى المنزل دون ملاحظة أي جديد ملفت للانتباه، ولأنها كانت ليلة ليلاء من ليالي الباعوض والحر في كرفور ، صعدت إلى سطح المنزل ونمت، وبعد ساعة تقريبا استيقظت على أذان المسجد المجاور، فنزلت استعدادا للصلاة، وأثناء نزولي مع السلم كان الهاتف يرن، وانقطع مع اقترابي منه..
راجعت الهاتف لمعرفة الرقم المتصل في ذلك الوقت المتأخر... وكانت المفاجأة الكبيرة.. ثلاثون مكالمة فائتة.. في هاتفي خلال الساعة الأخيرة وحدها، ومن أرقام مختلفة.. منها زملاء وسياسيون ومحامون وأناس عاديون، وأرقام خارجية من أوربا والخليج..
لا شك أن الأمر جلل ومن الحجم الكبير.. وأثناء تأملي مراجعتي لقائمة الاتصالات الفائتة، رن الهاتف من جديد وكان على الطرف الآخر الأستاذ المحامي سيدي محمد ولد محم وهو يومها عضو في هيئة الدفاع عن صالح ولد حننا وزملائه..
بعد السلام سريعا سأل ما ذا لديك من الجديد
ـ أي جديد..
ـ المدينة فيها حركة عسكرية ومحاولة انقلاب
ـ لا علمي بشيء، أنا استيقظت للتو
ـ أهيه أنت فايتك الأخبار.. هناك انقلاب وراءه قائد الحرس الرئاسي وبمعية الضابط ولد الغزواني، وربما معهم مدير الأمن اعل ولد محمد فال.
أعطاني ولد محم هذه المعلومات، وانتهت المكالمة..
رن الهاتف ثانية وكان الرقم هذه المرة من بيروت..
السلام عليكم
وعليكم السلام..
معك محمد جميل ولد منصور
أهلا وسهلا.. قلت ممازحا.. بإمكانكم المجيء إلى البلد.
سأل ضاحكا.. هل انتهي الانقلاب وهل نجح
ليست لدي أخبار دقيقة.. ورويت له ما لدي من معلومات.. وانقطع الاتصال.
ثم توالت الاتصالات تستفسر، وبعضها يعطي أخبارا منها ما انكشفت صحته لاحقا، ومنها ما هو أقرب إلى الخيال.
وأتذكر أحد كبار السياسيين في البلد اتصل علي وقال : يبدوا أنهم اغتالوا الرئيس وربما قتلوا جميع أفراد أسرته معه حتى لا يبقى شاهد على جريمتهم.. إنها مذبحة مروعة في القصر الرئاسي.
ألتزمت الصمت أثناء حديثه، وعند ما ختم حديثه، قلت .. مع الأسف، هذا إن وقع فهو أمر محزن.
فقد كنت أعرف أن ولد الطايع خارج البلد، لقد ذهب إلى السعودية لتقديم العزاء في وفاة الملك فهد بن عبد العزيز، وهو خبر أذاعته وكالات الأنباء.
وفي المسجد كان الهرج والمرج وهواتف بعض المصلين ترن، وكثير منهم يرد عليها بالتسبيح ..
وفي الصباح عدت إلى العمل حيث وجدت الدكتور الحسين ولد مدو قد سبقني، وحصل على تصريح مندد بالإنقلاب من الأمين العام للحزب الجمهوري الحاكم بلاها ولد مكية، وهو التصريح الذي سيبادر الحزب مساء نفس اليوم بالانقلاب عليه وإصدار بيان يؤيد الإطاحة بولد الطايع.