لأن المعاملات والمبادلات المالية والتجارية بينهما في الأصل محدودة، فإن التوقعات بأن تنعكس التطورات التي تجري بين المغرب والجزائر على اقتصادهما قد لا تكون دقيقة. لكن كيف يذهب الجزائري للمغرب، وكيف يقصد المغربي الجزائر؟ المتعصبون في الجانبين قد يردون على السؤال بآخر: وما الحاجة أصلاً لأن يفكر الجزائري في الذهاب إلى المغرب، أو أن يخطر على بال المغربي أن يسافر إلى الجزائر؟ إن قناعتهم هي أنه باستطاعة الجزائر أن تستغني تماما عن المغرب، وبإمكان المغرب أيضا أن يتجاهل بالكامل جارة تدعى الجزائر.
لكن إن تركنا ما يردده هؤلاء جانباً، فإن ما رسخ في أذهان الأجيال الشابة التي ولدت بعد التسعينيات، أن التنقل في الاتجاهين لا يتم إلا عبر الجو. وكم سيكون صعبا إفهامهم أنه في وقت ما، كان عبور الحدود براً وفي كلا الاتجاهين، أيسر وأسهل في بعض الحالات، حتى من التنقل بين مدينتين جزائريتين، أو بين بلدتين مغربيتين. غير أنه منذ منتصف التسعينيات، صار كل ذلك جزءاً من ماض ربما يود بعض المغاربة والجزائريين نسيانه، وربما يستحضره البعض الآخر منهم بأسى ومرارة.
لكن ما الذي سيحصل الآن بعد إغلاق الجزائر مجالها الجوي أمام طائرات المغرب، وابقاء حدودها البرية مقفلة بوجه سكان البلدين؟ هل ستكون الخطوة التالية مثلا هي منع السفن والزوارق المغربية من عبور المياه الإقليمية، أو الرسو في الموانئ الجزائرية؟ لا شيء يجعل تلك الفرضية مستبعدة، مع التصعيد شبه اليومي بين الجارتين. وما يزيد الصورة ضبابية، أن لا أحد في الجزائر يبدو مستعدا لتقديم أي وعد، باحتمال تحقيق انفراج، ولو محدود، في علاقة الدولتين المغاربيتين، بمن فيهم عمار بلاني مسؤول ملف دول المغرب العربي في الخارجية الجزائرية، الذي لم يستبعد الجمعة الماضية، في تصريح لوكالة رويترز للأنباء الوصول للأسوأ، أي «اللجوء إلى إجراءات إضافية» من جانب الجزائر تجاه جارتها المغرب، لكن ما الهدف الحقيقي من وراء كل تلك الخطوات التصعيدية التي اتخذتها الجزائر ضد جارتها الغربية، أو تلك التي قد تقدم على أخذها، وهو ما لا يستبعده كثيرون، بمن فيهم المسؤول الجزائري نفسه؟ عمليا لا تفسير آخر سوى رغبتها في فرض حصار شامل وغير معلن عليها. فمنذ مساء الأربعاء الماضي، بادرت الجزائر إلى غلق مجالها الجوي أمام الطائرات المغربية المدنية والعسكرية، في أعقاب اجتماع للمجلس الجزائري الأعلى للأمن، أشرف عليه الرئيس عبد المجيد تبون «وخصص لدراسة التطورات على الحدود مع المملكة المغربية، بالنظر إلى استمرار الاستفزازات والممارسات العدائية من الجانب المغربي» بحسب ما جاء في بيان رسمي نشرته وكالة الأنباء الجزائرية. لكن لا أحد يعرف بالضبط ما الذي دفع الجزائريين لأن يأخذوا مثل ذلك القرار. وهذا ما فتح الباب مجددا، ومثلما حصل في مرات سابقة، على أكثر من تأويل. لكن هل كان رد الفعل المغربي متوقعا؟ إذ لم يصدر عن الرباط وبعد مضي ما يقرب الأسبوع، أي تعليق رسمي على الخطوة، بل إن مصدرا في شركة الخطوط الجوية الملكية المغربية، صرح لوكالة رويترز بأن الإجراء لن يؤثر في الشركة بشكل كبير، وإنه لن يعني سوى خمس عشرة رحلة أسبوعية تربط المغرب بتونس وتركيا ومصر، وإن تلك الرحلات «قد تغير مسارها لتمر فوق البحر المتوسط». ومن الواضح أن ما ستفعله السلطات المغربية في هذه الحالة، هو أن تحاول الالتفاف ما أمكن على القرار الأخير، تماما كما فعل الجزائريون والمغاربة على السواء، ومنذ أكثر من عقدين عندما تفاجأوا بقرار متشنج، أخذ في ظروف ملتبسة يقضي بغلق الحدود البرية بين الجانبين، ليلجأوا إلى التنقل جواً وقضاء ساعات بدلا من دقائق للعبور من هذا الجانب إلى ذاك. والسؤال هنا هو، لِمَ أقدمت الجزائر على ذلك، ولِمَ أخذت قرارا من جانب واحد بجعل السبيل الوحيد الذي بقي أمام تنقل الجزائريين والمغاربة بين البلدين يكون أكثر صعوبة ومشقة؟ هل فعلت ذلك مثلا لتعاقب السلطات المغربية؟ أم لتنتزع منها اعتذارا عما اعتبرته خطيئة اقترفتها الحكومة المغربية، حين أدلى مندوبها في الأمم المتحدة قبل فترة بتصريح حول حق شعب القبائل في تقرير مصيره؟ أم إنها أقدمت على ذلك حتى تضغط على الرباط وتجعلها تراجع مثلا موقفها من إعادة علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الإسرائيلي؟ لا شك في أنها ابتعدت بقراراتها الأخيرة عن الفوز بأي كسب من ذلك النوع، لكن لم لا تزال مصرة إذن على اتباع الخط نفسه، ومن تريد ضربه أو محاصرته؟ هل النظام المغربي هو المستهدف من وراء فرض حصار على الشعبين المغربي والجزائري معا؟
الصدع بين الدول المغاربية توسع بشكل خطير بات ينذر بأن يحصل في الأيام المقبلة، لا سمح الله، ما هو أدهى وأمر
ليس معروفا بعد ما الذي دفع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لأن يكشف السبت الماضي، في كلمة أمام المحافظين عن بعض الأوراق الإقليمية. غير أن إشارته إلى أن «الجزائر تتعرض إلى هجمات إلكترونية من قبل 97 موقعا إلكترونيا من دول الجوار باستثناء تونس» كشفت عن تصوره للمدى الذي قد يأخذه حصار الغريمة المغربية.. فالأمر لا يقتصر على غلق المجال الجوي أمامها والاستمرار في غلق الحدود البرية، وربما التفكير حتى في غلق المياه الإقليمية والموانئ الجزائرية أمام سفنها، بل يتعداه إلى حشد ائتلاف إقليمي واسع ضدها. وليس غريبا أن يشير استثناء تونس هنا إلى أن مواقفها باتت تتطابق بشكل تام مع مواقف الجزائر، وهو ما كشفه الصمت الرسمي التونسي على القرار الجزائري بقطع العلاقات مع الرباط، أواخر الشهر الماضي، وعدم إصدار أي بيان في الموضوع، لكن ماذا عن أكثر البلدان المغاربية التي قد يعنيها مباشرة ما يحصل من تصعيد بين الجارتين وهي موريتانيا؟ إن عدم استثناء الرئيس الجزائري لها من بين الجيران الذين اتهمهم بشن هجمات إلكترونية على بلاده، يعني أن الجزائريين يحاولون جس النبض، واختبار رد الفعل الموريتاني حول فكرة انضمام بلاد شنقيط، ولو بشكل أقل وضوحا من تونس لحلف إقليمي ضد المغرب. ومع أنهم يعرفون أن الأمر لن يكون سهلا، في ظل عدة عوامل كارتباط جزء من الاقتصاد الموريتاني بالمغرب ونجاح المغاربة في الشهور الأخيرة في إقناع الموريتانيين بالحد من اتصالاتهم بجبهة البوليساريو، رغم عدم سحبهم للاعتراف بها، إلا أنهم يرغبون على الأقل في إفهام نواكشوط أنهم ليسوا مرتاحين على ما يبدو إلى المساعي التي بذلتها مؤخرا للتقريب بين الطرفين، ويرون فيها انحيازا لوجهة النظر المغربية. أما إلى أين يمكن أن يصل ذلك، وكيف ستنظر الجزائر لمن لا يشاركها أو يوافقها على خطواتها تجاه المغرب؟ وكيف سيتعامل الأخير مع من يقف على الناحية الأخرى، أي مع الجزائر؟
في أي اتجاه سارت المواقف، فإن المؤكد، أن الصدع بين الدول المغاربية قد توسع بشكل خطير بات ينذر بأن يحصل في الأيام المقبلة، لا سمح الله، ما هو أدهى وأمر.
نزار بولحية
كاتب وصحافي من تونس