ذات ليلة في مسرح حديقة الازبكية وسط القاهرة، كانت أم كلثوم تستعد لتقديم أغنية "يا ظالمني"، و قُبيل رفع الستار، مال إليها الموسيقار الكبير محمد القصبجي هامسا: "مات بيرم". يعني محمود بيرم التونسي، الشاعر المعروف بانحيازه للفقراء والبؤساء، والذي سخر حياته وشعره للطبقات المعدمة والمظلومة. بكت "السّت"، ولكنها تماسكت وقررت على البديهة أن تنعي الشاعر الكبير بغناء كلماته؛ فغيرت الأغنية المقررة إلى "الحب كِده".
وقالت في مناسبة أخرى، إنها - لولا الحزن والأسى - لاختارت الغناء بقصيدة له أو لغيره ضد غلاء المعيشة؛ وذلك احتراما وتقديرا لمواقفه الداعمة للفقراء والمستضعفين، والمناهضة للغلاء والاحتكار. و من أمثلة ذلك قصيدته المعروفة باسم "التسعيرة" التي تهكم فيها على «تسعيرة» وضعتها الحكومة المصرية في وقت من الأوقات، كي تحد من موجة الغلاء. فقال ساخراً متهكماً:
تعريفة محكمة التقدير ** من لجنة التسعير لا التيسير
اجتمعت في أسعد الأوقات ** وحددت سعر الغذا كالآتي:
القمح كل حبة بدرهم ** ومثلها الرز وحب السمسم
والتبن إن يوجد فبالمثقال ** في الخصب والمثقال بالريال
والسمن والزبد وكل دهن ** محرم تحريم.. بنت الدن
لا يذكر البيض بشيء ذاكر ** فالطير والدجاج، كل عاقر
ويكتفي الفقير بالعظام ** واللحم قد يراه في المنام
أو قصيدة أخرى تحاكي معلقة امرئ القيس، ولا أدري لمن:
قفـا نبك من ذكرى الغلاء المشعلل * فلست أراه عـن قريب سينجلي
بدكان "بِگْ مركتْ" أرى كل حاجتي * ولكــن بأسعـار تفــوق تخيلـي
أمــر عليه كل يـــوم وليلــة ولمـــا * يراني قادمــا كـم "يبص لي"
يقول : تعال الآن يا عم كي ترى * زبيبا وجوز الهند بيضاء "فلّلي"
وعندي من اللــوز اللذيـذ زكائب * وتين لذيذ مــن دمشـق وموصل
وعنـــدي "تحابيش" وعنــديَ بندق * تعالى إلـــى الدكان هيا لتدخـل
ومــا زال يغريني بكل طريقة * فقلت له : رحماك ياابن القرندلي
فإنــي بــلا مــال لأنــي مــوظف * ألســت تراني بالحـذاء المبهدل ؟