لا يتوقف الجدل في الشارع والحديث في الصالونات حول مدى إطلاع الرئيس على دقائق مجريات الأمور في البلد .
إن هذا الجدل تغذيه سيكولوجية الإنسان الموريتاني ؛ خاصة “موريتانيا الأعماق” كما يقال (المواطن العادي) ، إن هذا الكائن البسيط الذي ما زال على الفطرة جبل على مظنة الخير بالقادة ، ويستحيل في نظره أن يغفل الرئيس عن شاردة أو واردة ، أو يسكت على ظلم ، أو يرضى بفساد ، أحرى أن يشارك فيهما لا سمح الله.
عكس هؤلاء يوجد مفوهو التحاليل العفوية المجانية ، والمدونون ، وحتى بعض حملة الأقلام ، وصقور البلطجية الفيسبوكسية ممن ينظرون بسوداوية مطلقة إلى كل شيء ، ولا يتورعون عن بذيء الكلام والقذف والسب بأساليب بعيدة كل البعد عن الحس الإنساني المرهف ، والحوار الحضاري ، والذوق القيمي الذي هو أسمى ما توصل إليه الإنسان مذ جاء مكرها إلى هذه الأرض منذ آلاف السنين فاستوطنها وعمرها ، وطارح تضاريسها الهوى والغرام.
ثالث أضلاع هذا المثلث الباحثون عن المصالح الشخصية والتوظيف ، والمستفيدون من القسمة الضيزى لكعكة الدولة على شكل صفقات وامتيازات ، تؤمن مستوى معيشيا يضاهي رفاهية الملوك.
إن هذا الصنف الأخير يعيش في عالم بنفسجي جميل ، يتحدثون عن البلد دوما بنبرة واثقة جدا ، إلى درجة أنه يخيل إليك أحيانا أنهم سيقارنون مستوى الرفاهية عندنا بمستوى الرفاهية في فنلندا التي تتصدر باستمرار المقارنات الدولية في الأداء الوطني.
أما بالنسبة للرؤساء في موريتانيا فكانت على أعينهم دوما غشاوة ، وغالبا ما يصابون بالتضليل ، بل وعمى الألوان ، حصل ذلك أحيانا حتى مع السياسي الوقور المثقف والمخضرم الأستاذ المختار ولد داداه رحمه الله في بعض المراحل رغم أنه رجل دولة نادر حقا.
أما البقية ـ رغم طيبتهم ووطنيتهم ـ فكانوا عرضة للخداع من أقرب مقربيهم ، وعاشوا غالبا في حالة فصام عن الواقع ، يسامرون صممهم السرمدي عن صرخات المظلومين ، وأنين المرضى ، وتضور الجوعى ، وانكسار قلوب المهمشين ممن طحنتهم رحى الطبقية ، ومخلفات العبودية ، وأساطير النواميس الاجتماعية الجائرة .
إن أهم صفة للقائد على الإطلاق هي قدرته على التواصل الجيد مع الغير ، فضلا عن الإحاطة بالواقع والنشاط الدائم ، ثم تأتي صفات أخرى مكملة منها القدرة على بناء الفريق والثقة في النفس والتحلي بروح الدعابة .
إن أهمية القائد عبر التاريخ لا مراء فيها ، يكفي أن نعلم أن إمبراطور الفرنسيين وقائد حروب فرنسا الثورية ضد أعدائها نابليون بونابرت كان يقول (جيش من الوعول يقوده أسد ، خير من جيش من الأسود يقوده وعل).
أما الفيلسوف الصيني كونفوشيوس الذي بنى فلسفته على القيم الأخلاقية الشخصية ، وكان يدعو البشرية للنظر إلى الوراء قليلا والعودة للجذور والتقاليد ويلقب ب”نبي الصين” ؛ هذا الرجل الذي أقام مذهبه الفلسفي على الحب وحسن المعاملة والرقة في الحديث والأدب في الخطاب ـ وما أحوجنا نحن اليوم إلى كل ذلك ـ فكان يقول : (إذا صلح القائد فمن يجرؤ على الفساد؟).
إننا كبشر نميل بالفطرة إلى التفاؤل ، لكن علينا أن نعترف أن التفاؤل في واقع قاس كواقعنا يكاد يكون وقاحة ، وحتى لو جعلنا ذلك نخاطر ببعض قدراتنا الذهنية ف(عندما لا تتفاءل يتسوس الذكاء) كما كان يقول الأديب الفرنسي الكبير فيكتور هيجو الذي يرقد رفاته في مقبرة العظماء بباريس ، ألا يكفي ذلك في نظركم للدلالة على عظمته؟.
سيدي الرئيس
إن هموم المواطن هي العدالة بأسمى تجلياتها ؛ محاربة الفساد ، والظلم ، وتحقيق المساواة ، وحماية الكرامة ، والمصالح العامة والخاصة والتنمية والرفاه.
إن مأموريتكم الأولى قد انصرم أكثرها وما زالت الحرب على الفساد محدودة إن لم نقل مشبوهة ، وفريقكم ضعيف إذا استثنينا وزراء يعدون على بعض أصابع اليد الواحدة ، والانجازات ضعيفة و بوتيرة بطيئة إن لم نقل مملة ، والوضع المعيشي للمواطن بسبب الغلاء صعب جدا ، بل إننا نخاطر لنقول إنه لا يمكن تخيله إلا لمن أوتي ملكوت التعلق بمعية الضعفاء الذين تفتح لدعواتهم مغاليق أبواب السماء.
سيدي الرئيس
إن مافيات الفساد التي ترعرعت بشكل طفيلي في هياكل الإدارة تحتاج ردعا وصرامة وقسوة ، لا يكفي التجريد على أهميته ، والتحقيق الخجول بعد كل اكتشاف لكارثة فساد في مرفق ما ، بل ينبغي تطبيق القانون بحزم وتجرد ، وإطلاق اليد لمفتشيات الدولة ، وحماية المفتشين من سطوة ذئاب الدولة العميقة .
إن أخطر آفة يمكن أن تواجهنا هي لا سمح الله اليأس وانعدام الأفق ، وفقدان الثقة في الحكام ، لقد ذقنا مرارة انعدام الثقة من حكامنا المبجلين مرارا ، ولكننا لا نريد أن نسقط في هذا الظرف الحساس محليا وإقليميا ودوليا في فخ اليأس المطلق ، لذا نرجوكم من كل قلوبنا تصرفوا قبل فوات الأوان ، وادفعوا بكل طاقتكم إلى حدها الأقصى لعل وعسى.
وفي الختام اسمحوا لي أيها القراء الكرام أن ألفت انتباهكم ، وأترفع هنا إلى مستوى النداء الملح لكي نتوقف جميعا عن التشهير والسب والقذف ، ونابي الألفاظ والعبارات أيا كانت الأسباب ، وأن نسمو قليلا على نوازعنا ، وأن نزرع ثقافة الإنصاف والاحترام والدقة في التعبير وترك المغالطات والمبالغات والمغالاة.
دمتم و دام الذوق الرفيع ، لأن الذوق الرخيص يخلق الإنتاج الرخيص كما يقال.
كاتب موريتاني