منذ 2019، بدأت موريتانيا تناوبا سياسيا على رأس الدولة، بدا لأول وهلة مبشرا. وقد حدث هذا التناوب، لأول مرة منذ استقلال البلاد، دون اللجوء إلى القوة ولا إلى ليّ ذراع الدستور. ويعتبر هذا الحدث، العادي تماما في أماكن أخرى، إنجازا لم يسبق له مثيل عندنا. ولكن يتضح مع ذلك، وبعد أكثر من سنتين من ممارسة السلطة، أن حصيلة هذا الأسلوب الهادئ في ممارسة الحكم، بعيدة كل البعد عن تطلعات الموريتانيين، ومنه خيبة آمالهم وإحباطهم. فإلى اليوم لم يجر أي إصلاح ذي بال، ولم تطلق أية ورشة كبرى، وليست هناك رؤية لأفق 2030 خلافا لجيراننا. وظهر أن تعهدات الأمس السياسية مجرد شعارات انتخابية. وذلك رغم أن التحديات جسام، فالبلد متأخر على جميع الأصعدة.
حكامة متعثرة:
إن استمرار النظام، في صيغته الحالية، راجع إلى تلاقي عوامل مختلفة وتقاطع مصالح مراكز نفوذ متعددة، أولها الجيش. فتفاهم الضباط الأعلى رتبا ضروري لتماسك النظام لأن قوة تأثيرهم، ومنذ 1978، لا تزال حاسمة. أما الدعامة الثانية للمشروعية السياسية، والتي أصبحت لا غنى عنها منذ إدخال آليات الاقتراع المسير سنة 1992، فتتمثل في لوبي الوجهاء والمشيخات القبلية، وتضاف إلى هذه المشيخات وتتداخل معها طبقة "رجال الدين"، الذين بإمكانهم إضفاء الشرعية الدينية. كما رأينا في قضية ولد أمخيطير أو المأمورية الثالة، فإن لرجال الدين دورا أساسيا حيث يشرعون للنظام رغباته بإضفاء الشرعية على الشيء ثم نقيضه بطريقة مباشرة حسب متطلبات الظرفية مع استثناءات طبعا.
رجال الأعمال هم أيضا أصبحوا ركيزة أخرى أساسية من ركائز النظام رغم أن الدولة تبقى إلى حد كبير هي المصدر الأول للثروة، ونفوذهم تتجلى ملامحه في المواسم الانتخابية خاصة، إلا أنه يبقى هناك تفاوت بينهم لأن لكل نظام رجال أعماله المفضلين عنده.
وتمثل مساهمة كل هؤلاء، مع فارق في الأهمية حسب الظرفية، صمام أمان ضد تغيير مفاجئ قد تأتي به صناديق الاقتراع. فتأثيرهم، وخاصة في الأوساط الريفية، يجعل منهم أداة ذات نفع للتحكم الذهني أمام ازدهار خطابات التحرر والانعتاق وحتى القطيعة التي لا تنفك تهز الوضع القائم. وفي كلتا الحالتين، هناك ثمن ينبغي دفعه من أجل بقاء الأوضاع على ما كانت عليه. فتأجيل دمقرطة المجتمع والدولة، إلى أجل غير مسمى، يسمح بتأخير التغيير دائما وأبدا، مع ما يصاحب ذلك من خطر أن تتحول التناقضات المتراكمة إلى بركان ثوري. كما أن تدخل الجيش في اللعبة السياسية، عبر تحالفه مع قوى الجنود ورأس المال الوطني الخاص، يغذي الانطباع باستمرار الهيمنة.
ويتباين هذا الجمود الملاحظ مع طبيعة المشهد السياسي الحالي، الذي تبدو السلطة فيه في وضع ممتاز من عدة نواح. فالمعارضة التقليدية لم تعد إلا نسخة باهتة من ماضيها، بل وأسوأ من ذلك، لقد أصبحت ملحقا من ملاحق الأغلبية، حيث لا ينافس ضعفها إلا خمول الدولة المؤسسي. وحتى الجناح الراديكالي من المعارضة، ما ينفك يخطب ود رأس السلطة التنفيذية.
قصر النظر وانتشار الإفلات من العقاب:
ومن البديهي في مثل هذا السياق، أن زعيما ذا إرادة صادقة للتغيير سيجد صعوبة كبيرة في القيام بخطوات ملموسة من شأنها أن تثير عداوة مراكز القوى هذه، فكيف برجل غير ميال بطبعه إلى المواجهة. فضلا أنه لا ينبغي الانتظار ممّن نشأ وترعرع في كنف النظام أن يقوم بإصلاحات جذرية. وإذا كانت هناك خطوط حمر لا يمكن تجاوزها، فيبقى مع ذلك هامش مناورة يسمح لرئيس منتخب بالقيام بإصلاحات تمكث في الأرض وتنفع الناس. ولكن سلوك الحكومة يشي بأن أولويتها الأولى تبقى تسيير الأمور الجارية والعمل للمدى القريب. باختصار، ليس هناك ما يدعو للحماس بشأن إمكانية إصلاح حقيقي للنظام في سبيل عصرنته، أو في سبيل إعادة تأسيس اجتماعي من شأنها أن تؤسس لإجماع وطني.
وقد ظهر في النهاية أن التلويح مؤخرا بالعقوبات ضد المسؤولين الذين ثبت عليهم اختلاس المال العام خلال العشرية المنصرمة بقي مجرد تهديدات فارغة. فباستثناء الرئيس السابق، لم يتم حتى الآن إزعاج أي من المشتبه فيهم الذين شملهم التحقيق الذي قامت به لجنة برلمانية. فالتساهل الذي تعامل به السلطات أشاوس النظام لا يدانيه إلا الإفلات التام من العقاب الذي يحظون به، في تحد سافر لمشاعر الشعب.
وينير تدوير فضلات الحزب الحاكم للمراقب طبيعة الطريق التي تسلكها البلاد الآن. فسوء التسيير متواصل على الوتيرة نفسهاوبقواعد اللعب ذاتها، دون تغيير ولا قطيعة تذكر. فكل وكيل عمومي يستغل وظيفته لخصخصة الخدمة التي تقدم. وقد نتج عن ذلك تحلل سلطة الإدارة على جميع الأصعدة، وقد تجاوزت تأثيرات هذا الافتراس الحدود.
تفكك سلطة الدولة:
إذا كانت مالي تعاني من فشل متوقع للدولة نتيجة لعقود من من الفساد شبه المؤسسي ولنزاعات دامية، فإن بلادنا تواجه مشاكل من نوع آخر: استقالة الدولة، إن لم نقل التفكك الطوعي لسلطتها، وليس ذاك ناتجا عن أعمال عنف، وإنما عن تضافر عدة عوامل متداخلة، يزيدها الإفلات من العقوبة. ويشكل تآكل الصلاحيات السيادية للدولة تجسيدا لذلك. والأمثلة كثيرة، وعلى جميع المستويات، ولكن بعضها يكفي لتقريب الصورة. فتدهور السلطة يبدأ من الصفعات الموجهة لوكلاء الأمن في الأماكن العامة إلى الاعتداء الجسدي على المدرسين، دون أن ننسى هروب تجار المخدرات وغيرهم من عتاة المجرمين من السجن. إضافة إلى ذلك، فالإهمال الذي يسود البلاد لم تسلم منه الدول المجاورة. فالعدوانية المتزايدة لقوى الأمن المالية، وربما لميليشيا فاغنر التي تساعدها، اتجاه مواطنين موريتانيين، قد يكون أحد أسبابها انتشار التهريب والتجارة غير المشروعة القادمة من أراضينا أو بجوارها. فقد استقر اقتصاد مواز على حدودنا مع مالي، يدر دخلا كبيرا على التجار القائمين عليه.
وقد كثر الضحايا الجانبيون لهذه الوضعية، كما تظهر ذلك المذابح التي راح ضحيتها أبرياء وجدوا أنفسهم في دوامة فوضى عارمة. ورغم أن انتشار هذه الانتهاكات راجع إلى الفوضى التي تعرفها مالي، فإن على موريتانيا الاضطلاع بكافة مسؤولياتها. أضف إلى ذلك أن المنقبين عن الذهب في الشمال كثيرا ما يخترقون حدود الدول المجاورة. فالنقص الحاصل في رقابة حوزتنا الترابية وتواطؤ حرس حدودنا يغذيان وضعا قائما مضرا بمصداقية التزاماتنا الدولية من أجل السلام والاستقرار.
فكيف يمكن إذن فهم غياب وحدة لوزن حمولة الشاحنات على معابرنا البرية، أو التجمع غير الملائم لأفراد الأمن أو البنايات المتهالكة التي يسكنون؟ وأي صورة للبلد تعكسها أكواخ الدرك وأعرشة الشرطة عند مدخل نواذيبو، رئة موريتانيا الاقتصادية؟ وتظهر نقطة الگركرات الحدودية عجز سلطاتنا عن الاهتمام بصورة البلاد، مع أنها عنصر رئيس في جاذبيتها. كيف لمن يتحمل مسؤولية عمومية أن لا يبالي بكل هذا الإهمال؟
الحوار الوطني:
لا أحد في الساحة السياسية يشكك في إرادة التهدئة لدى رئيس الجمهورية ولا في صدقه. ولكن لا يمكن إجراء الحوار الوطني دون تنازلات ملموسة. ولكن باستثناء لقاءات مع رئيس الدولة، ومقابلات متباعدة مع وسائل الإعلام العمومي، تبقى المعارضة خارجة مجال التأثير ويظل أطرها مقصيين بصفة ممنهجة من الدوائر العليا للإدارة العمومية وللدولة. فلماذا يستمر احتكار الحزب الحاكم لمثل هذه المناصب ويستمر حرمان البلد من كفاءات فنية، هو في أمس الحاجة إليها؟ وقد نكون البلد الوحيد في المنطقة التي يوكل وظائف فنية إلى أشخاص دون أي مؤهل، ويبدو أن المعيار الوحيد لاختيارهم هو ولاؤهم للحزب أو انتماؤهم لأحد الأجنحة. ومن البداهة بمكان أن هذا النوع من المحسوبية يعطل آليات الإصلاح، ويديم الاختلالات البنيوية في جهاز الدولة.
التعليم:
لا جدال أن قطاع التعليم هو الحاضر الغائب في الأولويات الحكومية منذ عقود. وأما من يشكك في ذلك فما عليه إلا إلقاء نظرة على الميزانية المخصصة لهذا القطاع الاستراتيجي. ويبرهن تصنيف موريتانيا الدولي في هذا المجال على مدى الفشل الذي وصل إليه القطاع. وقد شجع الحط من مكانة مهنة المدرس تدريجيا على التغيب الممنهج وأكمل إفراغ القطاع من الكفاءات المطلوبة لانتشاله من واقعه. ولا يتوجه الشباب، الذين نجحوا بأعجوبة في الإفلات من فخاخ نظام تعليمي متهالك، إلى مجال التدريس إلا نادرا. أما فصول الامتياز التي ساهمت في تكوين نخبة صغيرة من ذوي المؤهلات فهي الآن على المحك. فبدل توسيع التجربة إلى الشعب الأدبية وإلى العلوم الإنسانية، وفتح الباب أمام عدد أكبر من الطلاب، يفضل القائمون على الأمر إدخال الرداءة، ومنه الاقتطاعات من الميزانية. فعوض مساعدة السكان الأكثر احتياجا على تجاوز العقبات الناتجة عن المنشأ والطبقة، تقوم الدولة بتعميم الرداءة تحت مسمى المساواة. وهكذا تسد أبواب الصعود الاجتماعي، التي كانت في الأصل ضيقة جدا. وهكذا، تترك النخبة الغنية للأكثر فقرا نظاما تعليميا متهالكا، وتُرسل أبناءها لمدارس خاصة، وقد تكون أجنبية.
وباستثناء المدارس الأجنبية، فهناك اليوم، بالنسبة للتعليم الثانوي، مؤسسة واحدة باستطاعتها أن ترعى الامتياز، إنها الثانوية العسكرية. ويُعبر إنشاؤها عن إرادة لاعتماد منهج يضمن إعادة إنتاج النخبة الحاكمة، يكون الشرط الوحيد فيها هو امتلاك ناصية التقنية. وتمثل المدرسة العليا متعددة التقنيات الامتداد الطبيعي لها. وتظهر النتائج الباهرة لطلابها المهندسين دون شك عن صرامة علمية، يعود الفضل فيها بشكل كبير إلى اختيار طاقم بشري ذي كفاءة لهذه المؤسسة.
ويهدف العداء للمثقفين المصاحب لآلية برمجة العقول هذه إلى تكوين خزان من المهندسين باستطاعتهم التفاهم مع الشركات متعددة الجنسيات العاملة في مجال الطاقة والمعادن، أو إنجاز مشاريع البنى التحتية، دون أن تنمي الحس النقدي لديهم. ينبغي إذن لنخبة المستقبل أن تكون فعالة على المستوى التقني، وأن تبتعد تماما عن السياسة! فالمطلوب هو تكوين طواقم بدون أفكار مستقلة وبدون ضمائر، قادرة على تنفيد التعليمات دون أن تناقش أو تحتج على جور المنظومة.
لم يكن الرئيس محمد ولد عبد العزيز يخفي احتقاره للشُّعب الأدبية، التي لا غنى عنها لامتلاك التجريد والتقييم والمراجعة. ويشهد امتناعه عن تقدير فائدة هذه الشعب، فضلا عن رفضه الدائم لبعض أبجديات العمل الإداري مثل دراسات الجدوى، على الإفلاس الثقافي الذي أوصلنا إليه. فأصبح باستطاعتنا ارتجال أعمال فنية أو إنشاء مدينة في قلب الصحراء دون أية دراسة مسبقة. فيكفي حسب زعمه الاقتناع بالفكرة والعمل على إنجازها. إن سيادة الجهل في أعلى هرم الدولة يقود إلى غرائبيات متنوعة، تكلف دائما ثمنا باهظا.
وباستثناء استشارة الفاعلين المعنيين، تتم جهود إصلاح التعليم دون أخذ حاجة سوق العمل في الاعتبار. واستجابة لدعوات ديماغوجية، تشيطن لغة تستخدم على نطاق واسع في الإدارة. يا للسخرية! فها نحن نسبب أضرارا لبعض حملة الشهادات الذين بالكاد ينجحون في إدماج مهني. وها هو الواقع يفضح الشعارات مرة أخرى، في صورة تجمع بين المأساوي والكوميدي. فبدل تصور جديد للتعليم معتمد على اللغة الرسمية -العربية- ومنفتح كثيرا على اللغات الأجنبية- الفرنسية معززة بتدريس مبكر للانگليزية-، تتجه فلسفة الحكومة إلى فرض تعليم عمومي بجميع اللغات الوطنية، دون تحضير مسبق ودون تقديم ما يبرر فائدة ذلك. إن القفز على مرحلة الممهدات المنطقية يذكر بموضة مولدات الطاقة الكهربائية، خلال العشرية المنصرمة، التي كانت تنشأ دون أي اعتبار لطاقة شبكة التوزيع. على ما يبدو فإن وضع العربة أمام الحصان أصبح الاستراتيجية الوحيدة التي تتكرر كلازمة.