التضخم معنا وفينا وبيننا وموجود في أطباقنا ووسائل نقلنا ومدارسنا ومرافقنا الصحية ولم يعد بإمكاننا التصرف كما كنا نفعل في السابق ولا يمكن أن نتجاهل هذه الظاهرة التي أصبحت واقعا يجب أن يؤخذ في محمل الجد وتتم مواجهته بحزم فالتضخم يعدنا الفقر والجوع وزيادة البطالة.
ففي العهد القريب لم نكن نبالي بالبطالة ولا نتعامل معها إلا بما يشبه الروح الرياضية لأن مجتمعنا يؤمن بتساوي الفرص وتوزيعها توزيعا عادلا حسب معايير الكفاءة الأكاديمية أو المهنية لكن الواقع بات يثبت عكس ذلك فولوج الوظيفة لا بد له من كثير من الجهد والمعاناة نتيجة إخفاء المعلومات المتعلقة بالتشغيل ونتيجة عدم شفافية مسابقات الاكتتاب وتزوير الشهادات وهي أمور هيأت الأرضية الملائمة لأنواع الغش والاحتيال وجعلت طالب العمل يضطر إلى أساليب تمس من كرامته وتنال من شرفه وعمت بلوى الأنانية لتقضي على قيم التكافل والتضامن وجاءت جائحة كوفيد لتجفف منابع المساعدات وتدفع بكثير من المنظمات الإنسانية والهيئات الخيرية إلى غلق الأبواب والتوقف عن العمل وزيادة على كل ذلك فالبطالة تهدر الموارد وتشي بعجز المنظومة الاقتصادية في ترشيد طاقاتها البشرية.
لقد أثبت عالم الاقتصاد الأمريكي آرتور أوكن Arthur Okun المستشار السابق لرئيس الولايات المتحدة جون كندى في القانون الذي يحمل اسمه أن زيادة نسبة البطالة تؤدي إلى انخفاض في الناتج القومي الخام بدرجة مقلقة لأن كل زيادة في البطالة بنسبة 1% تؤدي إلى تراجع هذا الناتج بنسبة 2%... وحسب هذا القانون فهناك علاقة سلبية بين البطالة والناتج قد تؤول حسب حدتها إلى ركود كلي للاقتصاد.
علينا أن نبدأ مواجهة البطالة باعتبارها «عدوا عموميا» بنفس درجة الجائحة التي أظهرت هشاشتنا وضعفنا ومحدودية وسائلنا. ولسنا وحدنا من يهددهم هذا العدو الذي بدأ يشوش بصفة مستديمة على النظام الاقتصادي العالمي.
ففي الولايات المتحدة مثلا بلغت نسبة التضخم 7% وذلك لأول مرة منذ 1982 وللتذكير فإن هذه الدولة بلغت فيها هذه النسبة 11،7% في السبعينات ويعود انخفاضها إلى 3% إلى بول فولكير Paul Volcker عندما كان رئيس البنك المركزي الأمريكي وذلك بفضل انتهاج تشديد السياسة النقدية وقد تمكن من خفض نسبة التضخم بنسبة 7،6% بل رفع تحديا آخر يتمثل في الحد من كلفة التضحية بنسبة تقل كثيرا عما كان يتوقعه الكثير من علماء الاقتصاد ونفس المقاربة التي تبعها بول فولكير هي ما يحاول أن يعيد تطبيقها الرئيس الحالي لهذه المؤسسة المالية المرموقة.
ففي هذا البلد عادة ما يقرب رؤساء الدولة مستشارين اقتصاديين يتم اختيارهم من أفضل الجامعات وأكثرها سمعة فعندما انتخب جون كندي رئيسا للولايات المتحدة سنة 1960 أحاط نفسه بكوكبة من ألمع علماء الاقتصاد الشباب ممن تكونوا في المدرسة الكينزية Keynesienne وأشاروا عليه بزيادة الدخل القومي عن طريق الحد من جبايات الضرائب والهدف المنشود من وراء ذلك هو تشجيع نفقات الاستهلاك والاستثمار لزيادة الدخل والتشغيل وكانت النتيجة زيادة الناتج القومي الخام بنسبة 3،5% 1964 و 6% 1965 أما البطالة فقد انخفضت بنسبة 7،5% 1963 2،5% 1964 6،4% 1965.
على ساستنا وأصحاب القرار أن يستلهموا من هذه السياسة بدل هدر الأموال العمومية في التعامل مع شبكات وراءها ما وراءها من عدم النزاهة وعليهم أن يستحضروا ويتأملوا في مقولة Confucius الفيلسوف الصيني كونفسيوس المشهورة "الفقر مخجل في ظل الحكم الرشيد والثروة مخجلة في ظل الحكم الفاسد» كونفسيوس 551 – 479 ق.م، كتاب الحكم.
التضخم لا تتأثر به أمريكا وحدها بل يتأثر به العالم أجمع، ففي فرنسا تفقد القوة الشرائية ما يقارب 3% بوتيرة متسارعة مما يؤثر بدرجة خطيرة على ميزانيات المستهلك دون أن تتم برمجة أي نوع من إعادة التقدير في نقطة مؤشر الرواتب.
بقية الدول الأوربية لم تنج هي الأخرى من هذه الظاهرة وخاصة الجنوبية منها التي تشهد تفاقما من الاضطرابات الاجتماعية وانتقال ملايين السكان إلى وضعية الفقر نتيجة البطالة والتسريح الجماعي للعمال.
وفي آسيا الوسطى تعرف دولة كازاخستان الغنية بالمعادن أعمال شغب دموية نتيجة ارتفاع الأسعار الدائم والمستمر والعام.
وفي تركيا نشاهد تدهورا حقيقيا للعملة الوطنية التي لا تتوقف عن التعثر نتيجة تخفيض البنك المركزي التركي لسعر الفائدة بما يقارب 500 نقطة في الوقت الذي تكون فيه 60% من الودائع المصرفية بعملتي الدولار أو اليورو وهناك اعتقاد راسخ في هذا البلد بأن تخفيض سعر الفائدة يحد من ارتفاع الأسعار في حين أن سعر الخبز قد ارتفع بنسبة 50% نتيجة هذه السياسة النقدية مما يؤكد بصفة واضحة وجود درجة كبيرة من التضخم.
والصين التي ظلت دائما في قلب العولمة والمحرك الأساسي للنمو العالمي ليست هي الأخرى في مأمن من التضخم إذ تشهد حالات إفلاس متتالية لمؤجري العقارات بسبب عدم قدرة المستأجرين على الوفاء بالتزاماتهم وتعرضهم للإفلاس المفاجئ الذي يحولهم من وضعية كانوا فيها أصحاب امتيازات إلى وضعية عاطلين عن العمل لا يبالي بهم أحد، وهذه الدولة العظيمة التي كان ينظر إليها في السابق على أنها مركز النمو الاقتصادي العالمي ها هي تذعن للعلاج المتمثل في تشديد السياسة النقدية تماما مثل ما يقع بالولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي وما سيقع عاجلا في أوربا التي لم تعد تؤمن بتمويل الاقتصاد عن طريق عرض العملة.
وطريقة ماريو دراكي Mario Draggi«مهما كلف ذلك من ثمن» والصكوك المالية التي توزع بسخاء لتخفيف الآثار الاقتصادية لجائحة كوفيد أمور أصبحت من الماضي. وفي نفس السياق انتهى سخاء وكرم البنك المركزي الأوربي الذي كان يمول النمو والتشغيل بتعميم الولوج إلى القروض بأسعار فائدة منخفضة من خلال تمكين البنوك من الحصول على السيولة بصفة مجانية وغير محدودة.
يجب أن نعيش هذا الواقع كما هو، فالتضخم الذي يثقل كاهل المستهلك ويزيد من تفاقم المشاكل الاجتماعية ويخل بنظام توزيع الموارد، بعيد كل البعد من أن يكون أمرا عرضيا بل هو آخذ في الترسخ بصفة دائمة، وعلينا أن نعي ذلك جيدا ونعد العدة لما قد يترتب عنه من الآثار و الانعكاسات السلبية، ومما لا شك فيه أن المقاربة النقدية هي رأس الحربة في محاربة ما يصفه كينس Keynes «بالنظام الذي يتسبب في إضعاف وتفقير كثير من الناس» وقد أظهرت جدارتها فكلما وقع تشديد في السياسة النقدية عن طريق التصرف في كمية النقد المتداولة كلما انخفضت الأسعار.
لكن يظل التحقق من نجاعة هذه المقاربة في موريتانيا مرهونا بإحصاءات دقيقة تكشف عن حجم وماهية الكتلة النقدية التي يتحكم فيها البنك المركزي مثل عدد النقود المعدنية و الأوراق المالية المتداولة واحتياطات البنوك ولأن الإحصاءات تفقد هذه الدقة فإنه لا يمكن تقييم انعكاسات تشديد السياسة النقدية إلا بصفة تقريبية وخاصة في بلد تقل فيه نسبة الولوج إلى الخدمات المصرفية عن 20% على غرار البلدان ذات نفس المكان، وفضلا عن ذلك لا توجد فيه سوق لتداول الأموال تسهل موازاة مع النظام المصرفي آلية توزيع الموارد الاقتصادية وتعزز الشفافية في العمليات المالية.
ومن المعلوم أن المحافظة على استقرار الأسعار أو بعبارة أخرى التحكم في التضخم الذي لا بد أن يبدأ بالتصرف في الكتلة النقدية من أهم أهداف سلطة الرقابة التي يمارسها البنك المركزي على البنوك الأولية.
وعلى ضوء كل هذه النواقص وغياب الإحصاءات الدقيقة وعدم وجود سوق مالية والنسبة الضئيلة في الولوج إلى الخدمات المصرفية الذي يقوض الدور الأساسي للبنوك في توزيع محكم للادخار دعما لتمويل الاقتصاد، يبقى كثير من العقبات قائما أمام وضع سياسة نقدية حكيمة كفيلة بالقضاء على التضخم.