يوم الـ25 من يوليو عند التونسيين في الأصل هو عيد الجمهورية، الذي يحمل في سجله تاريخا من الأحداث انتهت وسط خمسينات القرن الماضي، باستقلال أنهى أكثر من نصف قرن من الاستعمار، وتم تأسيس نظام جديد متجاوز للنظام الملكي الذي حكم البلاد لقرون طويلة. وقد دأبت تونس على الاحتفال به منذ أعلنه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في عام 1957. لكن 25 يوليو 2022، جاء مختلفا، لكونه هذه المرة جاء معلنا لما سماها الرئيس قيس سعيّد "الجمهورية الجديدة" القاطعة مع كل ما هو ماض، بعد استفتاء أسال حبرا كثيرا واختلفت حوله الطبقة السياسية بكل توجهاتها.
في شهر ديسمبر من العام الماضي، وفي قلب أزمة سياسية غير مسبوقة، قرر الرئيس التونسي التخلي وإن بشكل غير مباشر عن العمل بالدستور الذي صيغ في العام 2014، ضمن ما يشبه الصفقات السياسية. لم يشأ الإعلان عن الإلغاء لأن ذلك يعني أن كل ما انبثق عنه يكون في حكم الملغى من بينه شرعيته هو في قصر قرطاج. الرئيس اتخذ قرارا اعتبر فيه أن دستور ما يعرف بالجمهورية الثانية لم يعد صالحًا ولا يمكن أن يتواصل العمل به لأنه لا مشروعية له، لكن بدأ العمل بتدابير استثنائية منبثقة عن ذلك الدستور في الخطوط العامة.
بعد أشهر من إلغاء العمل بدستور 2014، أعلن قيس سعيد عن تشكيل لجنة استشارية، تتكفل بإعداد دستور لما سماها "جمهورية جديدة" تقطع مع كل الإرث السياسي الماضي. اللجنة كُلّف برئاستها "الصادق بلعيد" وهو أحد شيوخ القانون الدستوري في البلاد وأستاذ سابق للرئيس، ويساعده فيها أستاذان آخران أهمهما أمين محفوظ، وهو أستاذ جامعي معروف في الأوساط التونسية بتوجهه اللليبرالي الموغل في الانفتاح على الغرب وغير المتحمس للانتماء الحضاري لتونس. الواقع أن بلعيد نفسه لا يبتعد كثيرا عن محفوظ في هذا الأمر. وقد قامت اللجنة بالفعل بتقديم مسودة من دستور اعتقد الجميع أنه النسخة التي ستعرض على الاستفتاء، لكن الرئيس فاجأ الجميع بمن فيهم رئيس اللجنة ومساعداه بنسخة مختلفة تماما أعاد فيها صياغة مختلف الفصول، وركز فيها على نقاط الهوية والانتماء الحضاري للبلاد، الأمر الذي جعل بلعيد يقدّم للإعلام النسخة الأصلية واتهم قيس سعيّد بأنه يمهد لدولة محافظة لا تضمن مدنية الدولية وتطلق يد الرئيس دون رقابة، وهو ما نفاه في وقت لاحق.
واعتبر سعيّد في "دستوره" الجديد أن السلطات الثلاث هي مجرد وظائف وليست كما في السابق ولا سلطة إلا للشعب حسب رأيه. والرئيس هنا يبدو أنه ركّز على هذه المسألة بعد المعركة التي خيضت بينه وبين القضاة الذين يرون أنهم أصحاب سلطة تحظى باستقلالية تامة عما هو تنفيذي. والإجراءات التي اتخذت بحق العشرات منهم عبر إقالتهم تؤكد ذلك الخلاف الذي مازال قائما من خلال إضرابات الجوع والاعتصامات التي تبنتها هياكلهم واعتبرت أن سعيّد قد تجاوز صلاحياته في ذلك. كما احتوى الدستور على فضل أثير حوله جدل كبير، مرتبط أساسا بامتداد وانتماء البلاد، أين أكد على انتساب شعبها إلى الأمة الإسلامية والفضاء العربي، وهو ما أغضب بعض الأطراف الحداثية التي كانت تعوّل على الرئيس في التخلي عن فكرة الانتماء، لكنه أصر على وضعها وهذا ما يفسر الغضب الذي بدا وضحا على عدد من "النخب" ذات التوجه الليبرالي أو ما يعرف "مثقفي الدولة العميقة"، "المغرورين" بفكرة الأمة التونسية بمعناها الضيق وبمحاولة تحييدها عن بقية فضاءاتها الإقليمية.
كما غير سعيّد من السلطة التشريعية، عبر فصل المواقع النيابية، بين الطريقة التقليدية المعروفة في اختيار النواب رغم بعض الاختلاف في الصلاحيات وحصانة النائب وطريقة الانتخاب ذاتها، وبين جسم جديد يحاول البعض اعتباره بناء قاعديا منسجما مع أفكار الرئيس عبر انتخاب مجالس يتم انتخابها محليا وهي نقطة خلفت جدلا حتى لدى مؤيدي الرئيس، باعتبار أن المجتمع التونسي مازالت تحكمه الأفكار المناطقية الضيقة والعشائرية وهي التي ستكون محددة في ضمان المواقع في المجالس مستقبلا.
وبعد أن نشر الرئيس التونسي مشروع الدستور في الجريدة الرسمية للبلاد، نهاية يونيو، دعا التونسيين للتصويت عليه في 25 يوليو، استغلالا لرمزية ذلك التاريخ في البلاد، وقد توجه جزء منهم إلى الصناديق معبرين عن رغبتهم في التغيير، وقد كان لهم ذلك، حيث ذهب أكثر من مليونين ونصف المليون تونسي إلى صناديق الاقتراع راغبين في القطع مع كل المنظومات السابقة التي لم تنجح في إنهاء غضب الشعب وتوفير أبسط احتياجاته.
وعلى الرغم من أن عدد المنتخبين يساوي حوالي ثلث ما يعرف "بالجسم الانتخابي"، لكن نسبة الموافقة على دستور جديد لتونس بلغت حسب الأرقام الرسمية لهيئة الانتخابات 94.6 بالمائة، وهو رقم كبير يمنح الرئيس "شرعية" لاحقة لكل إجراءاته، وهذا في الواقع ما كان منتظر بالنظر إلى مقاطعة عدد من القوى السياسية وعلى رأسها حركة النهضة التي تتزعم تقريبا واجهة المعارضة لمشروع قيس سعيّد، هي والحزب الدستوري الحر الذي يعتبر الأكثر "انتكاسة" في مرحلة قيس سعيّد الجديدة باعتباره سحب عنه أغلبية قاعدته الشعبية والانتخابية وهذا يفسر موقف رئيسته المتشنج في أغلب المقاطع التي تسجلها على مواقع التواصل.
ما يمكن أن نستخلصه أن تونس دخلت مرحلة سياسية جديدة، البارز فيها هو الرئيس قيس سعيّد، الذي يُعْتقد أنه ماض في مشروعه دون أدنى اعتبار لأحد، مؤيدين ومعارضين، وهذا بالدرجة التي يمنح فيها استقرار نسبيا، بالقدر الذي يبعث تخوفات مشروعة عن تفرّد بالسلطة والنزوع نحو حكم الرئيس فيه هو محور العملية والمحدد فيها حتى بأخطائها.