بعد تقديم خالص العزاء لأهل وأقارب ضحايا حوادث السير المؤلمة التي وقعت في أيام عيد الأضحى المبارك، أو بعده بقليل، والترحم علي جميع الموتى، الذين لقوا مصرعهم، أود أن أتناول هذا الموضوع من زاوية التأمين والتعويض لذوي الضحايا وأقاربهم، فأقول꞉
لقد اختار المشرع الموريتاني، علي غرار الكثير من دول العالم، أن بجعل التأمين علي السيارات إجباريا. وهو خيار له ما يبرره، لأنه لا يمكن للدولة أن تترك ملاك السيارات والسائقين يحصدون أرواح الأبرياء، حتى إذا فعلوا ذلك، وبعد فوات الأوان، تأتي للدولة للتدخل، لإلزام أفراد وخواص، قد لا يملكون القدرة الكافية، في الغالب، علي التعويض.
ولقد ظهر التأمين كتنظيم حديث لا غني عنه، من أجل ضمان التعويض عن الحوادث، وحوادث السير علي وجه الخصوص، بأساليب وطرق عصرية، دقيقة في مبادئها التي تقوم عليها، وتتوخي التعويض في حالات المسؤولية المدنية اتجاه الغير، جراء استخدام السيارات، علي الطرقات العامة، طبقا لما تمليه قواعد الإنصاف والعدل بين أفراد المجتمع المتمدن، والذي لا يراد له أن يتحول إلي غابة لا يسود فيها نظام ولا قانون، يضبط ويحدد المسؤوليات بين أفراد المجتمع. فتأمين المسؤولية المدنية اتجاه الغير، أو الطرف الثالث، قائم علي أساس مبدأ و قاعدة صلبة من القانون المدني، مسلمة منطقا، وعقلا، وشرعا، مفادها ببساطة أن ’’كل من يتسبب للغير في ضرر يكون ملزما بجبر أو تعويض ذلك الضرر’’. فالتأمين الحديث هو أذكي طريقة للتطبيق العملي لهذا المبدأ والقاعدة العظيمة.
ولقد ظلت المجموعات العشائرية والقبلية في القديم تلعب دور هيئات التأمين الحديثة، في هذا الجانب، والي عهد قريب، وفي بلادنا علي وجه الخصوص. ومع ميلاد الدولة الموريتانية الحديثة، واستحالة الاستجابة الفورية والناجعة من قبل هذه التنظيمات القديمة لحماية الأفراد والتحمل عنهم، ظهرت الضرورة الملحة إلي اللجوء، من طرف الجميع، إلي شركات التأمين. وهو ما أدي إلي تولي الدولة الموريتانية الفتية، مبكرا، مهمة إنشاء أول مؤسسة وطنية للتأمين، قامت علي أنقاضها و بعد قرار الخصخصة سنة 1993 شركات خصوصية، تعددت وتكاثرت، حتى وصلت اليوم إلي 12 مؤسسة للتامين، تزاول أنشطتها علي عموم التراب الوطني.
وهكذا فلم يعد التأمين اليوم بحاجة إلي إبراز أهميته، ولا الدور الذي يلعبه بدل القبيلة والعشيرة، كلما كانت الدية اللازمة شرعا، في حالة القتل الخطأ، واجبة التسديد والأداء.
وإننا لندرك جميعا أن النفس البشرية لا يمكن أن تعوض بثمن، فاليتيم والأرملة والثكلى، والأقارب المفجعين اليوم بهذا الحادث المؤلم، الذي وقع علي طريق انواذيب- انواكشوط، وأمثاله، علي محاور أخري، لا يمكن أن يعوضهم ملء الأرض ذهبا عن فقد ذويهم.
لكن الشرائع السماوية، وقوانين العالم المتحضر، أجمعت كلها علي جبر هذه الخواطر بتعويض مادي، يهدف بالأساس إلي التخفيف من تداعيات وآثار فقدان شخص، قد يكون في الغالب معيلا، أو حتى مصدر دخل وحيد، لكثير من ذويه وأقاربه. فترك الزوجة بدون مساعدة مادية في حال فقدان زوجها، وترك الأطفال القصر اليتامى الذين فقدوا أباهم، بدون أية مساعدة مادية، لا يقول به عاقل ولا يسنده منطق سليم. لذا كانت الدية كمبدأ، في التعويض عن حوادث السير الجسمانية في بلادنا، أمر مسلم به ومفروغ منه، كما هو الحال في جميع البلدان، علي اختلاف في تسمية هذا التعويض، وسقفه، وطرق تسديديه.
ولن أخوض في شرعية تحديد مبلغ الدية الواجبة شرعا ب 3.000.000 ملايين أوقية (ثلاثة ملايين أوقية)، ونقاش ما إذا كان هذا المبلغ يجب أن يكون أكثر أو أقل، فالمهم عندي هو أن مبدأ التعويض قائم ومتفق عليه، قانونا وشرعا، في حالة القتل الخطأ.
فأين هو التعويض؟ وكيف يتم؟ وهل يتم أصلا، دون المماطلة والإدلاء إلي المحاكم، قصد الحيف وأكل أموال الناس بالباطل؟!
هذا هو السؤال المحوري والجوهري، الذي يجب طرحه، خصوصا عند وقوع هذا النوع من الحوادث الجسمانية المفجعة، كحادث السير المروع الذي وقع علي طريق انواذيب- انواكشوط، ليلة 28 من الشهر الجاري.
لقد تحدثت في مقالات سابقة، وأظن يما فيه الكفاية، عن واقع التأمين في بلادنا، لذلك، سأقتصر هذه المرة علي التذكير بنقطتين أساسيتين.
أولا ꞉ لا بد من الرقابة الصارمة والمشددة علي شركات التأمين، حني تقوم بواجبها في التسديد والتعويض لذوي الحقوق المترتبة عن حوادث السير، دون مماطلة أو تلكأ أو لجوء تلقائي إلي المحاكم، دون المرور بعروض تسوية ودية، في آجالها القانونية، كما تنص عليه مدونة التأمينات. كما يجب التأكد من وصول مبالغ التعويض إلي أيدي مستحقيها الفعليين. ويبرز هنا دور صندوق الضمان للتعويض عن حوادث السير، والذي يتأكد إلحاح إنشائه يوما بعد يوم، فهو يسهم في تعزيز التعويض عن حوادث السير، إلي جانب مؤسسات التأمين الخصوصية.
ثانيا ꞉ آن الأوان للقيام بفصل تأمين السيارات والباصات والشاحنات التي تمارس النقل العمومي للأشخاص، عن تأمين السيارات ذات الاستخدامات الأخرى، كسيارات التنقل الشخصي أو السياحية، ونقل البضائع، ونقل الحيوانات، أو اللحوم، أو الخضروات، أو المعادن النفيسة، أو النقود، أو التي تنقل المواد المشتعلة.
فالنقل العمومي للأشخاص يحظي بعناية خاصة، ويخضع، حتى في دول الجوار، لتنظيم خاص، إذ تتعلق به حياة البشر، وهي أغلي شيء. والحل، في تنظيم التأمين الخاص بالنقل العمومي للأشخاص، يكون كالتالي꞉
فإما أن تعمد الدولة إلي إنشاء شركة تأمين، لا تؤمن إلا للناقلين، أي خاصة بهم. فتكون هذه الشركة منهم واليهم، وبإمكانهم المساهمة في رأسمالها إلي جانب الدولة، وشركاء آخرون. وان شاءوا أعطوها الصبغة ’’التجارية’’ أو ’’التعاونية’’، عندها، ستكون الأقساط التي تطلب منهم هذه الشركة، تناقش معهم قبل إصدارها وتراعي فيها قوتهم المادية، والمصلحة العامة لقطاع حيوي كقطاع نقل الأشخاص. وسيكون بإمكان شركة التأمين هذه، الخاصة بتأمين سيارات النقل العمومي للأشخاص، أن تؤمن لهم حافلات النقل العمومي، ’’داخل’’ و ’’ما بين’’ المدن، وسيارات الأجرة أو التاكسيات، وسيارات وكالات التأجير،( ’’تأجير بسائق’’ و’’تأجير بغير سائق’’)، وباصات السياحة، أي كل المركبات ذات المحرك التي تنقل الأشخاص، بمقابل، وبشكل عمومي. وهذا هو الحل المعتمد في المغرب مثلا.
-وإما أن تُلزم الدولة مؤسسات التأمين في القطاع الخاص، بإنشاء ما يسمي’’ قطب النقل العمومي’’، فيكون هيئة منفصلة ذات إدارة مستقلة، يعين له مدير باتفاق بين مؤسسات التأمين والدولة، ويكون هذا القطب خاصا بسيارات النقل العمومي للأشخاص، بأنواعها السالفة الذكر. وهذا القطب عبارة عن ’’تأمين مشترك’’ بين كافة مؤسسات التأمين في البلد، تُعتمد فيه قواعد التأمين المشترك.. وهذا تنظيم وحل واقعي، يمكن كذلك من جعل الأقساط الخاصة بالناقلين، يحددها الناقلون أنقسهم، بالتشاور مع هذه الهيئة، التي تسمي كما قلنا ب’’قطب تأمين النقل العمومي’’ ويراعي في الأقساط التي تتم مراجعتها كلما اقتضت الضرورة، أولا وقبل كل شيء، مصلحة الناقلين ومصلحة قطاع النقل في البلد. وهذا هو الحل المعتمد في السنغال وفي الكثير من الدول الإفريقية.
وتكون الأقساط في هاتين الحالتين محترمة، لا يمكن التلاعب بها، ولا تأخير أو عدم تسديديها. كما تجمع هذه الأقساط وتستثمر في المصارف والأنشطة الاقتصادية المختلفة التي تقوي المركز المالي للشركة، وتجعلها أكثر قدرة علي التعويض عن الحوادث التي تقع.
محمد يسلم يرب ابيهات
نواكشوط 29/09/2015