أنا صحفي، ومن أوائل من التحقوا بحقل الصحافة، منذ أعلنت بلادنا تبني خيار الديمقراطية كنهج سياسي، وحرية التعبير كحق طبيعي للمواطن، كان ذلك مع نهاية ثمانينيات وبداية مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وبحكم مكانتي في الحقل –الذي تدرجت فيه من محرر بسيط إلى مدير لإحدى أعرق المؤسسات الإعلامية في بلادنا وأكثرها انتشارا- فقد مكنتني تلك المكانة من أن أجد حظوة خاصة لدى جميع من حكموا بلادنا من رؤساء، بغض النظر عن مستوى ولائي أو معارضتي لأنظمتهم، بحكم ارتباطي بتلك المهنة التي تستوجب أن يبقى صاحبها دائما في المنتصف، وبعبارة أخرى تلك السلطة التي تختلف عن باقي السلطات ويجب أن تمارس دورها في الرقابة على بقية السلطات، حيث كان الضمير المهني والوطني هو الوازع الوحيد والدليل الذي ظل يقودني في طريق مليء بالأشواك والمخاطر. غير أن مواقفي ومواقف تلك المؤسسة التي أديرها –بمختلف مكوناتها- لم تحل دون أن أجد حظوة لدى جميع من حكموا البلاد كما أسلفت سابقا. وقد مكنتني تلك الحظوة من الالتصاق ببعضهم أحيانا والتلاقي لِمامًا ببعضهم الآخر، بدءا بالرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع وانتهاء بفخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ومرورا بالمرحومين اعلي ولد محمد فال وسيدي محمد ولد الشيخ عبد الله والرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز. سافرت معهم والتقيت بهم في مكاتبهم وأجريت معهم المقابلات، ولا أنكر أنني أخضعتهم جميعا للمقياس التفاضلي في ذلك الميزان، الذي ينهض من تلقاء نفسه في لاشعور أي منا، أثناء لقائه بأي شخص يهمه، خاصة إن كان هذا الشخص على قدر كبير من الأهمية، بحكم وظيفته كرئيس للبلاد، ليخرج بعد ذلك اللقاء أو المقابلة، بالوزن الصافي لتلك الشخصية، انطلاقا من محتوى ما يستثار بينهما من أفكار ومناقشات وتحاليل، ولا أنكر أن كفة ذلك الميزان لم تستقر على وضعية واحدة لأي من أولائك الرؤساء مع آخر مشابه له، أو من يفترض أن يكون مثيلا له، حيث باتت تتدحرج بين من خفت به موازينه ومن ثقُل بموازينه. غير أن رحلتي خلال الأسبوع المنصرم، مع فخامة رئيس الجمهورية، عبر خطوطنا الجوية "الموريتانية للطيران"، والتي لم تألوا جهدا في توفير كل وسائل الراحة، وبطائرتها المريحة- كانت رحلة مختلفة بكل المقاييس ، مختلفة تماما عن جميع رحلاتي السابقة مع مختلف رؤساء البلاد، مما دعاني إلى التدوين والكتابة عن هذه الرحلة المطبوعة بنكهة الأخلاق الفاضلة والوضوح في الرؤية والتخطيط والإيمان بالهدف المنشود من أجل التقدم والإزدهار لشعبنا ووطننا العزيزين. واسمحوا لي أيها القراء الكرام، فكما قال الشاعر العظيم نزار قباني في إحدى روائع مقدماته القومية ".. لن أكون محايدا كالسكرتير العام للأمم المتحدة ولا موضوعيا كعالم الحشرات في جامعة هارفارد" بل سأكون وطنيا ووطنيا فقط. على غير عادة سابقيه من الرؤساء –أثناء الذهاب والعودة- كان فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، يتقدم لمصافحة جميع مرافقيه وتفقد أحوالهم، في مستوى مليء بالتواضع وتمثُّل الخلق الرفيع، كان ذلك أثناء إقلاع المغادرة، كما حدث مع إقلاع العودة. أما بعد لقائي به أثناء العودة، وعلى متن الطائرة التابعة الإسطول الموريتانية للطيران المستخدمة على نطاق واسع في افريقيا - فقد تبلورت في مخيلتي فكرة عن أسباب كل ذلك الانطباع المشحون بالإعجاب والانبهار، المعبر عنه بالإطراء والشعور بالارتياح، الذي كان يصرح به أي شخص مهما كان، وطنيا أو أجنبيا، سياسيا أو غير ذلك، رئيسا أو مجرد شخص بسيط، عندما يخرج من مقابلة حظي بها من طرف السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، مما لم يكن يحدث مطلقا أثناء خروج أي شخص من مقابلة أي من رؤسائنا السابقين –وسأستثني من ذلك التعميم المرحوم المختار ولد اده- ليس لعلمي بما كان يحدث آنذاك ولكن لحسن ظني به. فما الذي أعجبني وأبهرني –كغيري- من أفكار الرجل؟ إنه التفكير المختلف، والرؤية الإستراتيجية العميقة، والموسوعية الثقافية والتصور اللامتناهي لمستوى التقدم الذي يمكن أن تصل إليه البلاد، حال استمرارها على نفس النهج، كل ذلك مع درجة عالية من الأخلاق الرفيعة والقدرة الهائلة على الاستماع واستيعاب أفكار المتحدث مهما كانت قلة أهميتها. كان حديثه على مستوى عال من السمو، مدعما بأدلة عميقة من أقوال العظماء وحكم العقلاء وتجارب الشعوب، مع إدراك كبير واضح بخصائص وعادات شعبه. اتضح لي تأثره الكبير بطريقة وسلوك المرحوم المختار داداه مما كان يروى عنه من الاهتمام بأدق التفاصيل التي تمس مختلف أنحاء الوطن وجميع مكونات الشعب. بدا لي مؤمنا -حق الإيمان- بإلزامية ترسيخ المدرسة الجمهورية، والعناية بالأجيال المستقبلية بدءا بانتظام تلقيح الأطفال في الوقت المحدد وانتهاء بضمان مستقبلها كبناة للمستقبل، كل ذلك على حساب وسائل الدولة وقدراتها وجعله ذلك أمرا عاديا وروتينيا وواجبا لا مناص منه. بدا لي مؤمنا –كذلك- بصيانة الثروات الوطنية حيوانية أو زراعية أو معدنية أو بحرية، وترشيدها واستغلالها بطرق تضمن أعلى درجة من الاستفادة لصالح الشعب بمختلف شرائحه ومكوناته. بدا لي مؤمنا بترسيخ الديمقراطية غاية ووسيلة لضمان أفضل الخيارات، والتركيز على جانبها المتعلق بفصل السلطات، وترسيخ حرية التعبير ، دون أن يكون لها تأثير سلبي على العادات والخصائص الإيجابية للمجتمع، الذي يعتبر نفسه –بصفته رئيسا للبلاد- هو الضامن الأساسي لوحدته وتضامنه وتكافله. بدا لي واضحا، تقديره لجهود سابقيه من الرؤساء –مهما كان مستوى تواضع تلك الجهود- على عكس ما دأبنا عليه مع سابقيه من تمثل قوله تعالى "كلما دخلت أمة لعنت أختها" بدا لي واضحا، من خلال حديثنا عن بعض رؤساء أحزاب المعارضة وزعمائها، كالرئيس أحمد ولد داداه، حجم احترامه واعتباره الكبير لمعارضيه مهما كان مستوى الاختلاف في الرؤى والمشارب ومهما وصل الخلاف، فقد بدا متساميا عن التعاطي ومحاولة التنقيص أو إذلال منافسيه، على عكس ما كان من بعض سابقيه، من السقوط غير مدركين لحجم مكانتهم في سلم الهرم السياسي، ولأهمية القصوى لسماع الصوت المعارض ، واختلافه عن من كان يتعاطى معهم ببذيء العبارات وساقط الألفاظ في كثير من الأحيان. بدا لي أنه على درجة كبيرة من تقدير رموز الوطن وكافة الشخصيات العلمية والثقافية والفكرية التي ضحت من أجل الوطن وأسهمت في جلب سمعة كبيرة له، من خلال حديثه عن شخصيات وطنية أدبية وثقافية من طراز أحمدو ولد عبد القادر أطال الله بقاءه. لقد خرجت بكامل الإعجاب والتقدير والاحترام لرئيس يبدو مختلفا عن سابقيه، ومنفردا في سلوكه وقيمه الأخلاقية. كما خرجت بملاحظة منفردة، أن ما يتمثله النهج الحالي من قيم أخلاقية وتسام وجداني وحرص على رمزية ومكانة الدولة وهرمها السلطوي، وعلى مقدرات الوطن الاقتصادية والتنموية، سيكون له له ما بعده من تقدم وازدهار لشعبنا ووطننا، وفي القريب العاجل.