يستعد مجلس الوزراء الأربعاء المقبل لعقد دورة استثنائية حول الزراعة في مدينة روصو، ولا شك أن هذه الخطوة تحمل دلالات عدة بالرغم من رمزيتها، حيث قد تعني حسب اعتقادي:
- إظهار الأهمية الخاصة التي توليها الحكومة لقطاع الزراعة وللأمن الغذائي بشكل عام؛
- إعادة النظر في السياسات الزراعية المتبعة، بحيث يتم الاعتماد على المعطيات الحقيقية التي يُسندها الواقع الميداني؛
- إشراك أصحاب الشأن في صنع السياسات الزراعية.
لقد تناولت إشكالات تنمية القطاعات المتعلقة بالأمن الغذائي (الزراعة، التنمية الحيوانية والصيد) في مقالات عديدة خلال السنوات الماضية، حيث نبهت الجهات المعنية في الوقت المناسب، لما اعتقدت أنها أخطاء جسيمة قد تضر الصالح العام، واقترحت حلولا بديلة (مشروع زراعة السكر، مصنع ألبان النعمة، الاستصلاحات الرديئة مشروع التحسين الوراثي، استنزاف المصائد وتدمير الموائل البحرية.. الخ)، لكن للأسف لم تجد تلك التحذيرات آذانا صاغية، فقد وقعنا للأسف في ذات الحفر التي حذرت منها، مما أصابني بالإحباط حقا.
لماذا نحتاج لرؤية شاملة لتحقيق الامن الغذائي؟
ظلت السياسات الوطنية في مجال الأمن الغذائي تُبني على ردات فعل نتيجة الصدمات والأزمات المختلفة، من قبيل جفاف السبعينات، وأحداث 1989، والأزمة الاقتصادية العالمية 2007، وأزمة الصيادين السنغاليين، وأزمة كورونا، وإغلاق معبر الكركرات، وأخيرا حرب أوكرانيا.
أظهرت كل تلك الأزمات أنه لم يعد بالإمكان اليوم الاعتماد على الاستيراد كوسيلة للحصول على الغذاء أو المدخلات، كما لا يمكن الاعتماد على الموارد البشرية الأجنبية في هذا المجال الحيوي.
ساهم غياب رؤية شاملة للأمن الغذائي في إضعاف الاقتصاد الريفي باعتباره المسؤول الأول عن الأمن الغذائي، مما أثر سلبا علي الأوضاع الاقتصادية لسكان الريف وزاد إحساسهم بالغبن والتهميش، وقد انعكس ذلك على المشاركة السياسية، نتيجة ضعف الوعي، وارتفاع الأمية، وتردي الخدمات العمومية، وهجرة الشباب، وكلها عوامل تُقصي الريف من المشاركة السياسية الفاعلة، وتجعله فريسة لقوى الإقصاء فيفقد قدرته على التأثير والاختيار الواعي، مما يُربك النظام السياسي ويًكبل صناع القرار نتيجة المطالبات الاجتماعية غير المبررة، الأمر الذي ينعكس بشكل سلبي على الجهد التنموي.
لن يتحقق الأمن الغذائي في ظل حالة التشرذم الحالية، فالقطاعات المعنية متنازعة الصلاحيات وتفتقد للتنسيق، مما يسيب هدر الموارد وتضاد الجهود، الأمر الذي يفقدها ميزات هامة، كالتضافر والتكامل والأهداف الواحدة والسرعة المتزامنة والإدارة المندمجة.
خلال السنوات الماضية زارنا وزير واستقبله نظراؤه الثلاثة: الزراعة والبيطرة والصيد، طبعا ليست المشكلة هنا، بل تكمن في غياب التنسيق في الرؤية والأهداف والأولويات لدى القطاعات، بينما بدا الضيف منسجما وأهدافه واضحة.
تنبع أهمية هذه الرؤية من الاستفادة من الدروس والعبر، وإشراك الجميع لوضع غايات وأهداف محددة، على أن تكون طموحة وواقعية، وتوحيد الجهود والموارد في نسق واحد بحيث تكون قاطرة دفع حقيقية، وهذا يقتضي التنسيق الفعال بين كل القطاعات المعنية أو دمجها في بنية واحدة، الأمر الذي سيسمح بالتحول من سياسات تخفيف وقع الأزمات إلى سياسات مستشرفة للمستقبل وتتجنب الوقوع في الأزمات.
ما هو الأمن الغذائي؟
هناك مفاهيم أساسية متعلقة بالأمن الغذائي حسب الإطار الاستراتيجي العالمي للأمن الغذائي والتغذية، حيث يتحقق الأمن الغذائي عندما تتوافر لجميع الناس، في كل الأوقات، الإمكانات المادية والاجتماعية والاقتصـادية، للحصـول على أغذية كافية وســـــــليمة ومغذية تلبي احتياجاتهم التغذوية وتناســـــــب أذواقهم الغذائية للتمتع بحياة موفورة بالنشـــــــاط والصــــحة.
أدوار اللاعبين الرئيسين في مجال الأمن الغذائي
يتضح من خلال التعريف أن هنالك قطعات معنية يحب أن تنسق جهودها، بحيث تحقق الهدف المنشود، فالزراعة والتنمية الحيوانية والصيد تتحمل العبء الأكبر، لأنها مطالبة بتوفير الغذاء، في حين يقع على عاتق مفوضية الأمن الغذائي وشركة توزيع الأسماك توفير الخدمات اللوجستية الضرورية لتوصيل الغذاء في الوقت والمكان المناسبين، بينما ستكون هيئة مراقبة جودة الغذاء المتدخل الضامن لصحة الغذاء.
إشكالية حشد التمويلات الضرورية لتوفير الامن الغذائي
تستند الجهود الحالية في مجال الأمن الغذائي للتمويلات الأجنبية المرصودة في إطار المشاريع التنموية الممولة من شركاء الماليين في القطاعات المذكورة أعلاه، ولا تستجيب تلك التمويلات للاحتياجات الحقيقية أو الأولويات، كما تعتمد مقاربات خاصة بالمانحين أو مبادرات إقليميه لا تنسجم أو تتواءم في الغالب مع السياق الوطني.
ينتج عن كل ذلك تصميم مشاريع غير قادرة على تحقيق الأمن الغذائي ولا تلبي الآمال والتطلعات المعقودة، والأخطر هو فقدان القدرة على التأثير والمناورة لدي صناع القرار بسبب تكبيلهم باتفاقيات التمويل مع الشركاء.
في الوقت الراهن لا تبدو دفة قيادة الجهد الوطني في مجال الأمن الغذائي مرنة وطيعة بما يكفي لصناع القرار لتحقيق الأهداف المنشودة.
مرتكزات يمكن أن تستند إليها الرؤية:
- حكامة مندمجة وذكية في مجال الأمن الغذائي، تضمن الشفافية وإشراك أصحاب الشأن؛
- أراضي زراعية وموارد رعوية بحرية مستغلة بشكل مستدام، بما يضمن الإمداد الكافي والمستمر من الغذاء؛
- أنماط انتاج تقليدية مقدرة؛
- شراكة منصفة وناجحة بين القطاعات الأهلية والخصوصية والعمومية في مجال الأمن الغذائي؛
- ضمن خلق فرص استثمارية واعدة في مجال الأمن الغذائي؛
- يد عاملة وطنية مدربة؛
- مجتمع ريفي منتج؛
- وسائل إنتاج وتقانات ملائمة.
موارد قابلة لتحقيق الأمن الغذائي
تملك البلاد موارد كبيرة إذا ما أخذنا في الاعتبار عدد سكان البلد، وتكفي تلك الموارد لتحقيق الأمن الغذائي، وذلك بشرط تدبيرها بشكل منسجم ومندمج وعقلاني ومستدام، وهنا يمكن التركيز على ما يلي:
- إعلان الزراعات التقليدية والواحاتية وزراعات المساحات الصغرى كأنشطة ذات أهمية بيئية واجتماعية وثقافية تحظي بعناية خاصة؛
- إعلان الصيد التقليدي كنشاط ذو بعد بيئي واجتماعي ويحظى بعناية خاصة؛
- إعلان صغار مربي الماشية كأصحاب موروث ثقافي ومعرفة بيئية وإعطاؤهم عناية خاصة؛
- إجراء إصلاح عقاري شامل بما يضمن تعبئة الأراضي الخصبة غير المزروعة؛
- تفعيل وتطوير مؤسسات الإرشاد والبحث في مجال الأمن الغذائي؛
- إعادة تنظيم وغربلة المؤسسات المهنية والتعاونية في مجال الأمن الغذائي؛
- إدخال المكننة الزراعية في العملية الإنتاجية؛
- زيادة المساحة المزروعة بواقع 40 هكتارا مروية بالطرق الحديثة في منطقة الواجهة البحرية لزراعة القمح والخضروات؛
- إنشاء مصنع للأسمدة الفوسفاتية؛
- إنشاء شركة لتسويق منتجات الخضار وتحويلها؛
- الاستفادة من ميزة الحملة الشتوية لتصدير الخضروات للخارج؛
- خلق قطب للزراعة العلفية في ولايتي كوركل والبراكنة على مساحة 60 ألف هكتار لرفد مزارع إنتاج الألبان وتوفير الأعلاف لفترة الصيف لقطعان الانتجاع؛
- إدخال سلالات لإنتاج الألبان عالية الإنتاج؛
- تشجيع إقامة مصانع الألبان حول قطب الزراعة العلفية وذلك بدعم كل لتر حليب مصنع؛
- فرض ضريبة الانتجاع على كبار ملاك قطعان الماشية؛
- تشجيع إدخال دقيق السمك في صناعة المركزات العلفية؛
- تعزيز سلسلة الإمداد والحفظ والتوزيع للأسماك على مستوى التراب الوطني؛
- إعطاء العناية لمنشآت التخزين وسلاسل الإمداد لكافة السلع المتعلقة بالأمن الغذائي.
لم يعد هنالك مجال للنقاش حول أهمية تحقيق الأمن الغذائي والسيادة الغذائية اليوم، كما لا يخفي على أحد أن ذلك لن يكون إلا بمبادرة من البلد المعني، وذلك باتباع مقاربة شاملة تتناسب مع حجم الطموحات، فقد صار من اللازم اليوم تبني رؤية لأفق 2040 في مجال الأمن الغذائي، تسمح بخلقة قوة دافعة ومتناغمة تساهم فيها كل القطاعات، وتتناول الإشكالية بكل تعقيداتها من المنبع إلى المصب، بحيث يتم توفير التمويلات من خلال عوائد قطاعات الصناعات الاستخراجية وصندوق الأجيال القادمة ،وذلك بغية أخذ زمام المبادرة، ثم حشد التمويلات الإضافية من الشركاء.
في انتظار تبني تلك الرؤية سيظل حلم تحقيق الأمن الغذائي بعيدا، وستبقي السياسات المتبعة مجرد حلول ترقيعية لتخفيف الانعكاسات السلبية للأزمات بدل تجنبها.