نشأت النواة التي تصورت الانقلاب في نهاية 1986 وبداية 1987. وكانت تتكون من ستة ملازمين هم: صار أمادو، دياكو عبد الكريم، بوي ألاسان هارونا، با عبد القدوس، با سيدي وسي سايدو. وكان الملازم صار أمادو زعيمها، ومنعشها، ومنسقها. وأدت أغلاط، وأخطاء، وانحرافات متعددة إلى توريط الكثير من الأشخاص في تلك القضية دون أن يُدعوا إليها .
في البداية كان الأمر يتعلق بمجموعة محدودة من ستة ضباط، شملتهم عدوى الفيروس الإنقلابي المحلي، المستفحل منذ فترة. كان خيارهم بناء تنظيم عسكري صلب وسري، بطريقة متأنية وتدريجية، على المستوى الوطني، وعندما يحين الوقت المناسب، يشرعون في تنفيذ انقلاب. لكن الخيار الثاني، الأكثر كلاسيكية، والمتمثل في التحرك الفوري لتنفيذ الإنقلاب، طغى على الأول فأسفر عن النتائج المعروفة.
كان هدفهم الاستيلاء على السلطة، والسيطرة على مقاليدها تماما، ولعب ورقة التهدئة إلى أبعد الحدود، وطمأنة البلد والموريتانيين؛ مع الحفاظ على السلطة المكتسبة. وفي هذا السياق كان العقيد محمد ولد لكحل مرشحا لتولي منصب رئيس الأركان العامة للجيش الوطني. وقد اعتبروا أن هذا الضابط نبيل وله سمعة طيبة ويمكنه، تحت المراقبة، أن يجسد السلطة الضرورية لتوطيد النظام الجديد. وتم اعتماد مبدأ تقاسم السلطة مع العرب البربر. لكن صيغة ذلك وإجراءاته لم تحدد بعد. أما تغيير إسم البلد واسم العملة الوطنية، فكلها افتراءات. أكاذيب بثتها المخابرات العامة لتغويل المدبرين، وتناقلتها جون آفريك على نطاق واسع، آنذاك.
في نهاية المطاف ثبتت التهم على مفوض للشرطة وثلاثة عشر ضابطا بينهم نقيبان و11 ملازما، اثنان منهم من الدرك الوطني، و21 ضابط صف يضمون خمسة دركيين و2 من الحرس الوطني؛ هما الرقيبان جبريل علي ماليكال سي الملقب سامويل دو، وكان إبراهيما؛ وأدانتهم محكمة العدل الخاصة يوم 3 ديسمبر 1987. كلهم زنوج موريتانيون أغلبهم اكتُتبوا في ذروة حرب الصحراء؛ ينحدرون ـ في أغلبهم ـ من زعامات مجموعة التوكولور؛ وهم ضحايا لكثير من الظلم والتمييز في مجال ترقيتهم، وفي تقدمهم، وتحويلاتهم، وفي حياتهم الاجتماعية والمهنية اليومية. وقد تصرفوا بدافع الكبرياء للدفاع عن كرامتهم أكثر من أي شيء آخر.
سيكشف التاريخ، يوما ما، أن أولئك الضباط كانوا محاربين بواسل، شرفاء، مؤمنين حقا، مواطنين جيدين، فخورين بانتمائهم لموريتانيا، وخالين من أية مشاعر عنصرية أوتمييزية من أي نوع. لقد كانوا، للأسف، ضحايا لذلك القضاء الاستثنائي الذي لا يرحم، سريع الأحكام والخاضع للأوامر؛ والذي أدان ثم أعدم على الفور يوم 6 ديسمبر 1987؛ أي 72 ساعة فقط بعد النطق بالحكم؛ ثلاثة ضباط اعتبروا قادة لتلك المجموعة؛ بحجة رئيسية تمثلت في كونهم أول من اجتمعوا ليقرروا مشروع الانقلاب.
باستثناء الملازم البحري المهاب والجسور، لم يكن للإثنين الآخرين أي موقع قيادي وقت تلك "المحاولة"؛ فالملازم صار أمادو كان في مهمة تفتيش في نواذيب لحساب مديرية اللوازم، والملازم سي سايدو العائد من إسبانيا حيث أجرى تدرييا تطبيقيا، كان ما يزال في قيادة أركان الدرك ريثما يتم تحويله.
أما باقي أفراد المجموعة فقد أدينوا بعقوبات تراوحت بين السجن المؤبد والسجن 5 سنوات نافذة. وتمت تبرئة 7 فقط بينهم العقيد الكتوم آن أمادو بابالي.. يقول كليمانسو :»يكفي أن نضيف عبارة "عسكرية" لكلمة ما كي تفقدها معناها؛ فالعدالة العسكرية ليست هيالعدالة، والموسيقى العسكرية ليست هيا الموسيقى"... «
يتهم بعض الانقلابيين ضابطا من الدرك يعمل خارج نواكشوط، وآخرون ضابطا من البحرية بالوشاية بهم من خلال مكتب الدراسات والتوثيق (المخابرات العامة) أو وزارة الداخلية. لكن الفرضية الأكثر منطقية تتمثل في اتهام ضابط صف من الدرك؛ يعمل بسرية الأمن الرئاسي بالوشاية بالمعنيين عن طريق الرائد مدير الديوان العسكري الذي قيل إنه قدم المعني مباشرة لرئيس اللجنة العسكرية للخلاص الوطني من أجل إحباط المخطط عبر الشروع في اعتقال المدبرين.
يبد أن تلك اليقظة الاستثنائية، التي كانت غائبة لدى مختلف أجهزة استخبارات القوات المسلحة وقوات الأمن: الجيش، الشرطة، الدرك، الحرس، حيث لم تفطن لشيء رغم الوسائل الموضوعة تحت تصرفها؛ هي سبب الدفع بذاك الضابط السامي إلى منصب وزير الخارجية، ثم وزير الداخية قبل أن يكلف بإدارة الديمقرطة العسكرية؛ حتى لا نقول إضفاء القبلية على موريتانيا؛ بما أفضى باللجنة العسكرية للخلاص الوطني عهد جديد استمرت إلى غاية 3 أغسطس 2005.
لو أن مشروع أولئك الإنقلابيين في أكتوبر 1987، أحبط خارج العهد الإستثنائي، لكانو ـ بكل بساطة ـ مثلوا أمام مجلس تأديب وأقصوا من سجلات القوات المسلحة الوطنية. وقد شكل إعدام أولئك الضباط الثلاثة أكبر خطإ يرتكبه النظام الاستثنائي. فليس بديهيا أن تلك المجموعة ارتكبت أية مخالفة للمدونة الجنائية إذ تتكون المخالفة من ثلاثة عناصر: عنصر قانوني، عنصر معنوي، وعنصر مادي.
وفي حالة هؤلاء غاب العنصر المادي والعنصر الشرعي. لم يوجد العنصر المادي باعتبار أنه لم تكن هناك بداية تنفيذ؛ حيث تنص المادة 88 على أنه "عندما تكون إحدى المخالفات المنصوص عليها في المواد 83، 85، 86، و87 تم تنفيذها أو محاولتها فقط باستخدام الأسلحة، فإن العقوبة تكون الموت"؛ والمحاولة تعني البدء بهدف النجاح. لم تكن هناك محاولة لأنه لم توجد بداية تنفيذ. وفي 8 يونيو 2003 كانت هناك محاولة مع استخدام الأسلحة، إذ كان هناك بدء في التنفيذ.
لم يوجد ـ كذلك ـ عنصر قانوني إذ أن المحاولات أو المؤامرات موضوع المواد من 83 إلى 87 من المدونة الجنائية لا تعتبر مخالفات ضد سلطة الدولة إلا "حين توجه ضد أنظمة دستورية". بينما في يوم 22 أكتوبر 1987 كانت موريتانيا تُقاد من قبل نظام حكم استثنائي، سالب للسلطة سبق له أن قام بحل الدستور ويحكم كسيد مطلق كما في إقليم تم الاستيلاء عليه. صحيح أنه كانت هناك نية للاستيلاء على السلطة بالقوة تشكل العنصر المعنوي لكن ذلك غير كاف لتشكيل المخالفة.
إن إعدام أولئك الضباط الثلاثة يشكل، إذن، عملية اغتيال خارج العدالة؛ يمكن تشبيهها بحادث شغل كما في حالة اثنين من رفاقهم توفيا جراء سوء المعاملة وسوء التغذية في حفرة الموت بولاته. وفي هذه الحالة يجب على الدولة الموريتانية أن تدفع الدية لذوي الحق، ويجب أن يظهر المعنيون في موقع بارز على قائمة شهدائنا؛ شهداء الأمة. كما يجب أن ينال بقية الضحايا الناجون تعويضا عادلا عن جميع المساوئ التي تعرضوا لها، بما في ذلك المنفى.
إن الفاعلين الحقيقيين الذين كان باستطاعتهم التصرف بشكل ناجع يوم 22 أكتوبر 1987، ونجوا من عقوبة الإعدام بأعجوبة؛ هم: النقيب سي بوكار المدير المساعد للديوان العسكري، و الملازمون انكيدا علي مختار قائد سرية الأمن الرئاسي الذي كانت مهمته تحييد رئيس اللجنة العسكرية للخلاص الوطني ومعاونيه المقربين، وجا عبد الرحمن، ضابط المداومة بقيادة الأركان الوطنية، وكان مامادو من المنطقة العسكرية السادسة؛ ودياكوعبد الكريم من الكتيبة الأولى لكوماندوز المظليين( BCP).
حالة العقيد آن أمادو بابالي
العقيد آن أمادو بابالي مقتصد بارز وأحد الآباء المؤسسين للجيش الوطني، عرف بذكائه، وتواضعه، وأريحيته؛ وفوق ذلك نزاهته الفكرية. فهو الذي اعتذر بأدب؛ قبل ذلك بسنتين عن قبول عرض من رئيس الدولة بتعيينه قائدا للأركان الوطنية خلفا لأخيه المرحوم العقيد يال عبد الله؛ بحجة أنه كمقتصد لم يكن الأفضل لقيادة الجيش الوطني. وقد اقترح على الرئيس تعيين العقيد جبريل ولد عبد الله بدلا منه؛ باعتبار أن لديه مؤهلات أفضل لتولي هذا المنصب. وبذلك تم تعيين هذا الأخير ـ نفس اليوم ـ قائدا للأركان الوطنية.
إن ردة الفعل هذه، الشريفة والعفوية والصائبة إلى أقصى حد؛ والتي جرت في مكتب رئيس الدولة وبحضور العقيد جبريل؛ تظهر ـ بحد ذاتها ـ ان هذا الضابط الممتاز لم يكن له أي طموح للاستيلاء على السلطة بالقوة، وأنه لم يكن مفعما بأي شعور فئوي أو تمييزي من أي نوع كان. بل إن هذا التصرف يبين ـ بالعكس ـ كامل نبل الرجل، سماحته العظيمة، روح الشرف العالية التي يتمتع بها، الواجب، الأخوة، الصداقة، واحترامه المطلق للأخلاق المهنية للضابط.
لقد نسي رئيس اللجنة العسكرية؛ وقد أعماه حب السلطة، موقف 29 أكتوبر 1985، وسعى ـ عبثا ـ إلى توريط رفيقه في السلاح في تلك المغامرة المشؤومة.
وهكذا وجد هذا الضابط العظيم نفسه في موقف سيء، أمام مواجهة بعيدة عن الواقعية فرضت عليه مع ضباط شباب يمكن لأغلبهم أن يكونوا أبناءه ولم يكن يربطهم به سوى الاحترام الواجب بحق رتبته، وسنه، والتقدير المتبادل، وهي مشاعر تحترم جدا في أوساط البولار. وفي أعقاب ذلك الابتلاء الصعب خرج العقيد آن مرفوع الرأس.
البطل
تميز الملازم باسايدي من البحرية الوطنية، أساسا، بكبريائه وشجاعته وجرأته منذ التحقيق الأولِي وحتى عمود الإعدام. ففي مرحلة التحقيق؛ حين تمت مواجهته ببعض الخاضعين لإمرته، قال للقاضي: "سيدي القاضي إن شرفي كضابط يمنعني من أن يكذبني من هم تحت إمرتي لذا أرجو منكم أن تعتبروا كل ما يقولونه لكم عني صحيحا". وبعد النطق بالحكم قال لمحاميه: "لم تكن لدينا أية نية لإبادة أي كان، لكن كانت لدينا النية تماما لأخذ السلطة بالقوة. وإذا تطلب الأمر إعادة الكرة فأنا مستعد لذلك".
وقبل بضع دقائق من إعدامه، سئل ـ كما يحدث في ظروف مشابه ـ إن كان لديه ما يريد قوله. رد الملازم الحازم بهدوء على محاميه الأستاذ محمد شين ولد محمادو؛ قبل أن يذهب إلى عمود تنفيذ حكم الإعدام بقوله: "أجل أستاذ، لدي وصيتان وشهادة. الوصية الأولى تتعلق بوالدَي.. أمي وأبي. لقد جاءا من بوكي وعانيا كثيرا لما علما باعتقالي. وسيعانيان أكثر حين يعلمان بإعدامي.. أطلب منك أن تذهب لرؤيتهما لتطلب منهما أن يغفرا لي.
الوصية الثانية تعني أخي الذي يعمل في بنك محلي، عليك أن تذهب إليه لكي يسدد دينا بمبلغ 7000 أوقية لدائني وهو صاحب حانوت قريب من المستشفى الوطني. وأما الشهادة فأشهدك عليها، ثم نطق بها:((أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)).
وعده المحامي بأن يسدد ـ شخصيا ـ ذلك الدين وبأن يقوم بإيصال وصيته إلى والديه فورا.
انتظر الضباط الثلاثة؛ وهم مربوطون بأعمدة الإعدام يصوب نحو وجوههم ثلاثة رماة من مسافة ستة أمتار؛ بشرف، نهاية حياتهم التي باتت مرهونة بأمر من قائد فريق الإعدام. ثم جاءت اللحظة الموعودة: "أطلق النار".. وانطلقت الرصاصات الثلاث الأولى فأصاب الرامي المكلف بقتل با سيدي في فخذه.. وحسب عدة شهود فإن الضابط قال لقاتله: "لقد جرحتني.. أرفع الفوهة وحدد الهدف بدقة".. سايدي باه.. سايدي باه...!!
بهذا التصرف المفعم بالشجاعة الاستثنائية، أظهر ذلك الشهيد المنحدر من منطقة فوتا أنه كان يوجد في موريتانيا يوم 6 ديسمبر 1987 بنواكشوط، رجل تحلى ـ في وجه الموت ـ بصلابة توازي صلابة الشهيد صدام حسين وهو يعدم شنقا يوم 30 ديسمبر 2006 في بغداد.
وأخيرا أسلم الضباط الثلاثة أرواحهم لباريها مرددين: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.. لا إله إلا الله محمد رسول الله".
تقبل الله، جل وعلا، شهداءنا في جنانه. ووفق موريتانيا للتصالح يوما مع أبنائها من منطقة فوتا، ووالو، وكيديماغا