برزت مسألة الديمقراطية والانتخابات على الأجندة السياسية الأفريقية، وأصبحت خيارا معتمدا في معظم دول القارة على خلفية تحولات جيوسياسية عالمية كبيرة أفضت إلى الهيمنة الغربية على شؤون العالم. يقول ابن خلدون: "إن المغلوب مولع بتقليد الغالب"، ولكن التجارب المختلفة والهفوات المتلاحقة أظهرت أنّ تقليد الديموقراطية الغربية في أفريقيا يطرح إشكالية تطبيقها وترجمتها على أرض الواقع.
وهناك سؤال يراود الأذهان: كيف الجمعُ بين "عالمية" الديمقراطية و"محليّة" التطبيق؟ بين "عمومية" المبادئ و"خصوصية" التنفيذ؟ كيف يمكن زرع ديمقراطية الغرب في مجتمعات الجنوب والشرق؟ لا بد من طرح هذه الأسئلة بعد أن برزت عوامل بنيوية عديدة تعترض موضوعيا سبيل الديمقراطية الغربية في أفريقيا والعالم العربي. أذكر منها، على سبيل المثال، البنية الاجتماعية التي تعود إلى القرون الوسطى في بعض ملامحها وعاداتها، حيث لا هوية ولا تميز للإنسان "الفرد" دون "الجماعة" سواء كانت تلك الجماعة أسرة أو قبيلة أو قرية أو جهة، و انتشار الفقر والأمية في صفوف المجتمع، و غياب طبقة سياسية أو نخبة مثقفة ديمقراطيا تكون بمثابة القاطرة التي تقود عملية التحول الديمقراطي.
كانت وما زالت الطبقة المثقفة في القارة موزعة على 3 أجزاء: جزء يدور في فلك السلطة حيثما دارت، وجزء يدور على نفسه متفرجًا على الاحداث، وجزء يسعى غالبا للتغيير بطرق غيرِ ديمقراطية..
أمام هذه المعوقات والعقبات فإنه من الطبيعي أن تظل أفريقيا عرضة لما نراه من اضطرابات مزمنة وقلاقل وتعثرات، وانقلابات عسكرية وانتخابات مثيرة للشغب والفوضى. الدرس الذي ينبغي استخلاصه مما يجري في النيجر ومالي وبوركينا وغينيا وتشاد وغيرها من دول القارة، والسنغال وساحل العاج سابقا ووسط أفريقيا والسودان هو أنه حان وقت مراجعة المسار وتقييم المحاصيل بعد أكثر من 30 عاما على مؤتمر "لابول" ومحاولة فرض الديمقراطية فرضا. علينا أن نتساءل: أي ديمقراطية نريد؟ و أي حكامة تناسب وضعنا؟
ليس هناك ما يفرض علينا محاكاة واستنساخ النموذج الغربي بحذافيره، خاصة بعد ما تبيّن من إفلاسه الحضاري والثقافي وازدواجيته وتناقضاته وفقرِه الأخلاقي. لا بد لنا من تفكير وابتكار وإبداع. ذلكم هو التحدي الكبير الذي يواجه النخب الأفريقية في تأسيس نظام حكم ملائم يأخذ من الديمقراطية ما يتقوى به، ويبتكر من الأدوات والآليات ما يتناسب مع بنيته وثقافته وتاريخه ليستقر به حاله.
إني متفائل بميلاد مثل هذا الحكم تزامنا مع تغيرات جيوسياسية كبيرة تتمثل في خلخلة نظام القطب الواحد ودخول العالم في تقلُّصات وإرهاصات ولادة نظام عالمي جديد يسير باتجاه تعدُّد الأقطاب أو باتجاه "اللانظام".
بدأت الديمقراطية تفقِد من بريقها، ويطمس نجمُها حتى في داخل الدول الغربية. وظهر تنافس جديد بين نموذجين على مستوى العالم: النموذج "الديمقراطي" القائم على "الفرد" و على "الانتخاب" كما في الغرب عموما، والنموذج "المركزي" القائم على "الجماعة" و "الانجازات" كما في الصين، ودول أخرى مثل روسيا، وتركيا، ونمور جنوب شرق آسيا، وإيران، وعدد من الدول العربية منها الكويت، الإمارات، قطر، المغرب..) و روندا في أفريقيا. تمتاز هذه الدول الناهضة بالتركيز على "النظام" و"الانضباط"، و"الجدارة"؛ ما دفع بعض المحللين إلى الحديث عن شرعية "الإنجازات" في مقابل شرعية "الانتخابات".
الانتخابات ليست كل شيء. ولا يمكن اختزال الديموقراطية في صناديق الاقتراع. زد على ذلك أنّها، أي الديمقراطية، ليست هدفا بحد ذاته، بل وسيلة لبلوغ هدف أسمى، هو الحياة الكريمة للإنسان. إن لم يشعر المواطن أن حقوقه وأوضاعه المعيشية في تحسن، فلن يشعر بقيمة العمل السياسي، بل إن هذا الأخير سوف يفقد قيمته لأن الإنسان كما قلنا لا يحيا بالسياسة فقط، ولا يتلذذ بطعم الحرية وهو جائع ويفتقر لأبسط متطلبات الحياة.
وبناء على ذلك، وبصرف النظر عن ما نبذله من جهد في سبيل الحريات والانتخابات، ينبغي لنا التركيز على "الجدارة" و"الانضباط" في تسيير الموارد البشرية والمادية ومحاربة الفساد .. إن أي بلد يظن أن شرعية الانتخاب تكفيه للبناء والاستقرار مع انتشار الزبونية والوساطة والاعتماد على أصحاب الشعبية المصطنعة بالمال الحرام على حساب ذوي الضمائر والكفاءة.. فإنه واهمٌ، واهم. الحل يكمن في المركزية والانضباط والجدارة والعمل المسترك.. فقط، لا غير.