من بين أكثر 160 دولة جاءت موريتانيا في الرتبة الأخيرة من حيث الأمان في إمدادات المياه، وذلك وفق دراسة أعدتها مجموعة مابلكروفت البريطانية لتحليل المخاطر قبل 12 سنة، وقد كانت هذه الفترة كافية لتغيير إيجابي في تعزيز مصادر الأمان المائي للبلاد، لكن لا أحد اهتم بالخطر الذي يتهدد البلاد، وظلت المعالجات محدودة جدا، ولا تتجاوز تسيير اليوميات.
لا تعتبر موريتانيا دولة ذات كثافة سكانية، لكنها تعاني فوضوية في توزيع السكان، وفوضوية أشد في الاستفادة من موادرها المائية المتعددة والعملاقة.
وفي الطريق الوصول إلى الأمان، ما زالت مناطق متعددة من موريتانيا من بينها العاصمة تعاني شحا متواصلا في المياه وخصوصا في فترات الصيف، لكن موسم العطش اختار هذه المرة موسم الأمطار، وتدفق مليارات الأمتار المكعبة من مياه الأمطار، لتعيش العاصمة حالة من العطش غير مسبوقة.
منظر من سد واد سكليل
يرجع وزير المياه الجديد اسماعيل ولد عبد الفتاح هذه الظاهرة المخيفة إلى تصاعد "الطمي" في النهر، مما سبب تراجع نسبة إنتاج المياه الصالحة للشرب إلى العاصمة من 145 ألف متر مكعب إلى 75 ألف لا أكثر.
موريتانيا ..جاور الماء تعطش
تعتمد موريتانيا على مصادر مياه متعددة، أبرزها حصة البلاد من نهر السنغال، والتي تقدر بالثلث، وما تزال موريتانيا بعيدة من استنفاد هذه الحصة، وسط حديث متواصل عن استنزاف يمارسه الجانب السنغالي تجاه مياه النهر وحصص الشركاء الآخرين، وما يصبه الغدير والنهر في البحر.
وتأخرت استفادة موريتانيا من نهر السنغال إلى نهاية الثمانينيات، حينما بدأ ري بعض مدن النهر من الماء عبر تقنية التصفية التقليدية، قبل أن تنجح مع منتصف العقد الماضي في إقامة مشروع آفطوط الساحلي لري مدينة نواكشوط، وهو المشروع التي تأخر إنجازه لعقود.
رغم أن التفكير والتخطيط للاستفاد من مياه النهر يعود للعقد الثاني من عمر الدولة الموريتانية، حيث برزت للتفكيرمجموعة من الخيارات منها شق نهر لري العطاش في ازويرات، التفكير في قناة دبانكو وغيرها من المشاريع السيادت التي لم تر النور.
وإلى جانب النهر تعتمد موريتانيا على مصادر متعددة من المياه الجوفية، في ولايات ترارزة، الحوض الشرقي، وإنشيري.
وقد بدأت موريتانيا متأخرة في الاستفادة من هذه المقدرات المائية من خلال مشروع ري المناطق الشرقية، حيث انطلق ري مقاطعة النعمة، وتمبدغة، ولعيون انطلاقا من آفطوط الشرقي.
ثم هناك سد فم لكليت العملاق الذي أقيم منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لكن ظلت الاستفادة منه محدود، وإن تعجب فعجب أن القرى المجاورة له عطشة، ينبش أهلها منابع القطرعلهم يجدون مايسد الرمق.
هكذا يحصل سكان منطقة كوب المجاورة لفم لكليته على الماء الشروب
وبالإضافة إلى هذه المصادر فإن موريتانيا تهدر سنويا قرابة 16 مليار متر مكعب من مياه الأمطار التي تنساب من أعالي جبال تكانت ومن منطقة الضفة قبل أن تصل إلى المحيط مشكلة بذلك خسارة مائية غير متوقعة.
تركيز على الداخل وإهمال للعاصمة
استطاع الانظمة السابقة إحداث نقلة نوعية في مجال الري، من خلال مشاريع كبرى من بينها مد المياه إلى منطقة آفطوط بولايتي لعصابة والبراكنة، وغورغل، وسقاية الحوض الغربي من خلال آفطوط الشرقي، إضافة إلى مد مياه آفطوط الساحلي إلى العاصمة نواكشوط، التي تراجع فيها بشكل كبير بيع المياه على العربات التي تجرها الحمير، والتي كانت المزود الأساسي لأغلب أحياء العاصمة بالمياه
غير أن ما لم ينحج فيه القائمون على ملف المياه طيلة الفترة المنصرمة هو مراجعة وتحديث شبكة المياه في العاصمة، ولا إقامة الخزانات الكبيرة الضامنة للاحتياط، إضافة إلى سوء الصيانة في الخزانات الموجودة، وتهالك أغلب الشبكات القديمة في العاصمة.
ومع وصول نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني توجهت سياسة الري إلى الداخل، حيث تم التركيز عليه وإهمال العاصمة بشكل كبير، رغم أن ملف المياه شهد تعاقب أربعة وزراء خلال أربع سنوات، إلا أن أداءه كان جزء أساسيا من الحملة الاجتماعية الموجهة للداخل.
ومن بين الإنجازات التي حققها قطاع المياه خلال الفترة المنصرمة:
- إنشاء 724 شبكة لتوزيع المياه
إنجاز 568 حفرا للاستغلال
تجديد 1486 من آليات الضخ
تجهيزات نظم التزويد، و3553 كلم من خطوط الإمداد بالمياه.
استفادت 2055 قرية ريفية من برنامج مجانية مياه الشرب
استفادت 1911 بلدة من خدمات الصرف الصحي بالأرياف.
هل إلى حل من سبيل
يقدم خبراء المياه في موريتانيا مجموعة من الحلول أبرزها:
تطوير الاستثمار في مجال الري من النهر: معتبرين أن حصة موريتانيا من مياه هذا النهر كافية لري البلاد بل لإيصال الماء من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وحل مشكل العطش في وسط البلاد وجنوبها، ويتطلب هذا الأمر مجموعة من الوسائل أبرزها:
استخدام التقنية العالية في نقل المياه، وإقامة المنشآت الكافية لنقل المياه وتوزيعه
صيانة المنشآت الحالية: وتوسيعها وإعادة تركيب شبكات مياه جديدة يمكن أن تتحمل ضخ المياه بدل الشبكة القديمة التي أدت إلى تسرب المياه في مناطق متعددة من العاصمة وتهجير أحياء بكاملها في العاصمة.
أما فيما يتعلق بمياه الأمطار فيقدم الخبير في مجال المياه المهندس اخليهن ولد الشيخ مجموعة من المقترحات أبرزها:
1- ترميم السدود و إصلاح و توجيه المجاري التي تغذيها و إستصلاح أحواضها لزيادة قدرتها على مسك المياه لفترة أطول (تستفيد كل قرية من السد من خلال زراعته و تغذيته للخزان المائي الجوفي الذي سوف تعتمد عليه الآبار سواء كانت تقليدية أو إرتوازية طيلة السنة إلى غاية موسم الأمطار القادم و يوفر السد كذلك مخزوناغذائيا ورعويا).
2- إحياء و استصناع التيمرن (أحواض تجميع المياه السطحية) وذلك من خلال حفر ماتم طمره منها (الردم سواء كان بالتربة أو الأشجار وردم الآبار المؤقتة التي تحفر بها فترة الصيف و كذلك نزع الجيف و كل مايلوث مياهها) وإحياء المجاري التي تغذيها فمن المعلوم أن"التيمرن" تلعب دورا كبيرا في توفير المياه السطحية وتغذية الخزانات الجوفية و المحافظة على توازن الوسط البيئي والرعوي وخفض منسوب السيول الجارفة.
3- بناء وترميم الأحواض الصارفة: تلعب الأحواض الصارفة دورا كبيرا في خفض سرعة السيول مما يحد من الآثار السلبية لها و كذلك تتيح الوقت الكافي لنفاذ المياه إلى الخزانات الجوفية (بعض السيول يزيد من قوتها و تأثيرها السلبي غياب استصلاحات تعمل على خفض سرعتها وفقد كميات منها في الطريق).
4- تأهيل الوديان والشبكة الهيدرولوجية: تتغير الشبكة الهدرولوجية من وديان و أحواض تجميعية وصارفة طيلة السنة بين كل موسمي أمطار فيتم سد وغلق وتغير مسار أجزاء منها بسبب التصحر و الرياح و الاستصلاحات غير المدروسة مما يفرض علينا سنويا قبل موسم الأمطار التعامل مع هذه الوضعية للحد من مخاطر السيول القوية و استفادة من الكميات الهائلة من المياه التي سوف تجري معها خلال موسم الأمطار.
5- الآبار الإرتوازية (صونداج): يجب تنظيفها و شفطها قبل موسم الأمطار لتتجدد قدراتها الإنتاجية و شبكتها الهيدروجولوجية(حسب الحاجة وعمر البئر و جودت إنجازه).
6- الآبار التقليدية (الحسيان): يجب حفرها وتعميقها و ورفع الردم عنها (عملية إتجج) قبل موسم الأمطار لتكون مهيأة للاستفادة منه ومرتبطة بالدورة المائية.
7- الوسط البيئي المائي: لابد من القيام بحملة تنظيف قبل موسم الأمطار للمحافظة علي جودة المياه وعدم تلوثها (نزع القمامة والجيف وبقايا استصلاحات الصيف).
وبين تلك المقترحات، وهذا العطش الذي يتمدد مع تمدد العاصمة يبقى الأمن المائي الموريتاني أملا ما زال يحتاج خطوات كثيرة وقنوات توصيل لم تصنع أسبابها بعد.
موقع الفكر