ترجع العلاقات بين مالي وروسيا إلى عهد الاتحاد السوفييتي، وبعد الاستقلال مباشرة، عام 1960م، برئاسة أول رئيس للبلاد موديبو كيتا، عندما أقام علاقات قوية مع الاتحاد السوفييتي على حساب القوة الاستعمارية السابقة للبلاد (فرنسا)، فكان السوفييت أول مُستغِل لمناجم الذهب في البلاد بعد الاستقلال، وكانت البنى التحتية التي قامت عليها أركان الدولة الجديدة من مصانع ومشاريع زراعية وتنموية، وأسلحة الجيش من طائرات ودبابات روسية الصنع، ومن نتائج السياسة الاشتراكية التي كان قد انتهجها الرئيس كيتا.
وقد ظل الأمر كذلك حتى حدث انقلاب الرئيس الراحل موسى تراوري عليه عام 1968م؛ فأعاد التوجه السياسي للدولة إلى المحور الفرنسي. وقد ظلت مالي في ذلك المحور طيلة رئاسته وخلفائه من بعده (الرئيس الأسبق ألفا عمر كوناري، وخلفه الراحل أمدو توماني توري)، وقد قوي النفوذ الفرنسي بعد الانقلاب على الرئيس توري، عندما تساقطت أقاليم شمال الدولة في أيدي المتمردين، وأصبحت البلاد في حالة من الفوضى، واضطرب الجيش بعد عزله، ففي ظل تعاظم أمر هؤلاء، وعزمهم الاستيلاء على كل البلاد بما فيها بماكو، اضطر رئيس المرحلة الانتقالية يومها، جونكودا تراوري إلى طلب النجدة من الرئيس الفرنسي آن ذاك “فرانسوا هولاند”، في رسالة وجَّهها إليه، فتدخلت القوات الفرنسية في الشمال في 13 يناير 2013م تحت اسم “سيرفال”، ثم تحولت إلى “بركان” عام 2014م، لتشمل كل منطقة الساحل والصحراء، على أن تكون قاعدتها المركزية في “إنجامينا” بتشاد.
ثم سار بعده الرئيس الراحل إبراهيم بوبكر كيتا على هذه ذات السياسة، بل وشهد عهده توقيع اتفاقية دفاعية بين مالي وفرنسا، إلى أن أطاح به العقيد عاصمي غويتا في انقلاب 18 أغسطس 2020م، في سياق حركة معارضة شعبية قادها رئيس الوزراء الحالي الدكتور شوغيل ميغا .
دوافع التدخل الفرنسي في منطقة الساحل:
تتكون منطقة الساحل من خمس دول؛ هي: مالي، بوركينا فاسو، موريتانيا، النيجر، تشاد. بعدد سكان يقارب مائة مليون نسمة. وقد اجتمعت تحت مظلة دفاعية عسكرية سُمِّيت بـ”مجموعة الخمس الساحلية“.
وتُواجه هذه المساحة الجغرافية صعوبات وتحديات في تنامي المدّ الإرهابي، والجريمة المنظمة، والتغيرات المناخية، والنمو الديمغرافي، وغيرها من التحديات التي تساهم في إضعاف قدرات المنطقة، فوجب أن يكون التصدي لها على الصعيدين السياسي والعسكري على حد سواء؛ بانتهاج الوسائل التي تضمن للمنطقة التنمية المستدامة[1].
وتهدف فرنسا من خلال تدخلها في منطقة الساحل مع شركائها الأوروبيين إلى منع تحوَّل المنطقة إلى ساحة للاضطرابات والتوترات؛ بحيث تستولي عليها جماعات إرهابية، وتتخذها مسرحًا لتهريب الأسلحة ومساعدة المهاجرين غير الشرعيين على السفر لأوروبا، وهو الأمر الذي يمكن أن يُهدِّد أمن فرنسا ومصالحها في المنطقة، فتدخلت عام 2013م في مالي باسم “عملية سيرفال”؛ للتصدي للمتمردين في شمال البلاد، ثم امتدَّ تدخُّلها ليشمل منطقة الساحل كلها تحت اسم “عملية بركان”(2)[2].
و في عام 2020م تكوَّنت قوة فرنسية خاصة إلى جانب قوات شركائها الأوروبيين بقيادة عملية “بركان” في إطار وحدة أوروبية مشتركة سُمِّيت بـ”تاكوبا”؛ فوصل الدعم العسكري الفرنسي للمنطقة عام 2019م إلى حدّ نشر 5100 جندي فرنسي على مختلف الجبهات. و7000 جندي لمجموعة الساحل الخمس تلقوا تدريبات تحت رعاية فرنسية؛ وذلك لتمكين هذه القوات المحلية من تأمين أراضي بلادها بنفسها(3)[3].
أسس الإرهاب في منطقة الساحل:
الإرهاب في منطقة الساحل نوعان:
أ- النزاع الذي ظهر في مالي مع نهاية التسعينيات بعدما اشتد أمر الإرهاب المنحدر من الجزائر.
ب- النزاع الدائر شمال نيجيريا، وانتشار حركة “بوكو حرام”.
وأسباب هذين النزاعين مختلفة ومتعددة؛ منها داخلية ومنها خارجية.
فالأسباب الخارجية تشمل الأزمة الجزائرية في التسعينيات، والليبية عام 2011م بعد سقوط الزعيم الليبي معمر القذافي، وقد أدَّى ذلك إلى انتشار المقاتلين وجماعات العنف في المنطقة برُمّتها. ولكن الأسباب الداخلية هي التي ساعدت على انتشار الإرهاب في المنطقة، والتي تتمثل في النزاعات التاريخية العِرْقية بين مختلف شعوب المنطقة، والتي يمكن تقسيمها إلى شعوب الشمال والجنوب، ويتميزون باختلاف النمط الحياتي لكل منها، فشعوب الشمال في الغالب رعاة متنقلون؛ حيث المروج والمراعي الخضراء، أما شعوب الجنوب فإنهم في الغالب مزارعون مستقرّون. وقد دارت مواجهات على مر القرون بين قبائل هذه الشعوب إما دفاعًا عن نفسها أو ردًّا للمزارعين لاعتداءات القبائل الرُّحَّل التي تُفْسِد المزروعات في تنقلاتها، وكذلك النزاعات بين سكان الشمال الطوارق وقبائل الرعاة الرُّحَّل منذ زمن الاستقلال في الستينيات وحتى نهاية التسعينيات في مالي والنيجر وتشاد(5)[5].
وتعود الأسباب العميقة لانتشار أعمال العنف والنزاعات القبلية في منطقة الساحل إلى ستة أسباب رئيسة، هي:
نزاعات تتعلق بالأراضي الزراعية والمراعي الحيوانية بين الرعاة والمزارعين، واستغلال الثروات والموارد المعدنية الواقعة في مناجم الذهب التقليدية بين السكان وروّاد المناجم في أكثر دول الساحل.
نزاعات حول السيادة والزعامة السياسية، عندما تواجه القيادة السياسية معارضة من القبائل والعشائر.
نزاعات تتعلق بمحاولة تغيير بعض الأوضاع القبلية والطبقات الاجتماعية في أحداث تتعلق بالرق، ورفضها الاسترقاق.
نزاعات دينية بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية في بلاد متفرقة في المنطقة، مثل تشاد وبوركينا فاسو، وكذا النزاعات التي تشعلها جماعات مثل “بوكو حرام” في نيجيريا على حدود الساحل.
نزاعات قَبَلية مع جماعات العنف التي تُملي شرائعها وقوانينها في مناطق كثيرة في دول الساحل. وقد انضم إلى هذه الجماعات أنصار لهم أهداف شتَّى؛ فبعضهم التحق بهم لتوقّي بطشهم في غياب حماية الدولة وانتشار الانفلات الأمني، وبعض الجماعات تضطر إلى توقيع اتفاقيات مصالحة مع جماعات العنف؛ فتتعامل معهم لضمان حرية الحركة والتنقل واستغلال الأراضي. مما يُوجِد لها أعداء آخرين سواء من جماعات مُنافِسَة أو من الجيش والجماعات المحلية المناضلة ضد المتمردين. بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية؛ فجماعات العنف توفّر رواتب جيدة لكثير من الشباب العاطل عن العمل، يمارسون فيها أعمال السطو والنهب المسلح وقطع الطريق.
تسلُّح الجماعات القبلية والميليشيات المحلية: ففي الوقت الذي تجد أكثرية دول الساحل نفسها عاجزة عن بسط سيطرتها على ترابها الوطني؛ تجد الجماعات المحلية نفسها في ضرورة للاعتماد على ذاتها لحماية نفسها من أعمال العنف، بتكوين ميليشيات مسلَّحة تقوم نيابة عن الدولة بتوفير الأمن لأهالي القرى، كما هو موجود في مالي باسم “دانا أمباساغو” المتكونة أساسًا من قبائل “الدوغون” التي تقاتل المتطرفين الذين هم في الأساس من قبائل الفلان. وفي بوركينا فاسو يحملون اسم “VDP”؛ أي المتطوعون للدفاع عن الوطن. وهذه الميليشيات كثيرًا ما تُشكِّل مصدرًا لأعمال عنف وانتقامات قبلية[6].
آفاق التحالف الروسي المالي:
كما أسلفنا في مقدمة البحث؛ كانت فرنسا قد تدخلت لأول مرة عام 2013م تحت مسمى “سيرفال”؛ للتصدي للمتمردين الذين كانوا يستعدُّون للزحف على بماكو. وبالفعل، فقد حقَّقت هذه القوات هدفها. ثم تحولت إلى “بركان” بمهمة أكبر؛ هي: محاربة الإرهاب في منطقة الساحل بأكملها، فزادت فرنسا في تعداد قواتها المرابطة في المنطقة لتصل إلى 5000 رجل، مجهَّزة بكل الأسلحة العسكرية المتطورة برية وجوية، ولكنَّ الغريب أنه لم ينقص ذلك شيئًا من فساد المتطرفين، بل ازدادوا قوةً وكثُر أنصارهم للعوامل التي ذكرنا في أسباب تجنيد جماعات العنف للشباب، فقد أفسدوا في البلاد، بحرق القرى، ومهاجمة الثكنات العسكرية، وقتل الجنود، والاستيلاء على المعدات، وحرق المزروعات، وإتلاف المحاصيل، والسيطرة على مدن وقرى عديدة وفرض قوانينهم فيها، ويقومون بالتنقل بالمئات على دراجات نارية وارتكاب أعمال عنف، ومن ثم العودة إلى مواقعهم سالمين غانمين.
كل ذلك يتم أمام أعين القوات الفرنسية دون أن تُحرِّك ساكنًا، ولذلك اتهمها الكثيرون من العامة والخاصة بالتآمر مع المتطرفين، وقالوا: إنه ليس بإمكان المتمردين أن يقوموا بعملياتهم مع وجود هذه القوات الفرنسية لولا هذا التآمر.
وقد استمر الوضع على هذه الحال خلال حكم الرئيس الراحل إبراهيم بوبكر كيتا، وحتى الانقلاب عليه يوم 18 أغسطس 2020م مِن قِبَل خمسة ضباط برتبة عقيد يتقدّمهم العقيد عاصمي غويتا. وكان قد ساد البلاد موجة من الغضب والاحتقان العام ضد فرنسا لمثل هذا الوضع الأمني، مع تزايد أعداد القتلى من الجنود. وقد ظهر ذلك في المظاهرات الشعبية التي سبقت الإطاحة بالرئيس؛ حيث طالب الناس بطرد فرنسا، ونادوا بتدخل روسيا، فرُفعت أعلام روسيا وصور الرئيس الروسي في المظاهرات. وبالفعل، فقد استجاب الجيش لمطالب الشعب، فزار وزير الدفاع موسكو مرارًا ووقَّع مع نظيره الروسي اتفاقيات في مجال الدفاع والأمن.
ويعتبر وزير الدفاع ساجو كمارا مهندس هذا التحالف؛ حيث إنه درس في روسيا، ومنها غادر للمشاركة في عملية الانقلاب على الراحل إبراهيم بوبكر كيتا، وقد قام بعدة زيارة لموسكو لوضع أسس التحالف مع المسؤولين الروس[7].
أبعاد التنافس الروسي الفرنسي في منطقة الساحل:
بالنسبة لفرنسا؛ فإنها تَعتبر منطقة الساحل منطقة نفوذها التقليدية؛ نظرًا لماضيها الاستعماري، ويعزّز ذلك مكانتها في النظام الدولي في ضوء اعتمادها على الكتلة التصويتية لدول المنطقة، والتي تدور في فلكها منذ الاستقلال، للدفاع عن قضاياها في المحافل الدولية، كما تعد المنطقة وجهة مهمَّة للصادرات الفرنسية، ومصدرًا مُهمًّا للحصول على الموارد والثروات الطبيعية والطاقة، كالنفط والغاز واليورانيوم. وتتخذ باريس من المنطقة قاعدة خلفية في مواجهة التحديات الأمنية التي تتعرض لها القارة الأوربية عامة وفرنسا خاصة؛ نظرًا لانتشار التنظيمات الإرهابية في المنطقة، كما أنها ساحة رائجة للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.
أما روسيا فإنها تسعى إلى تأكيد نفسها كقوة عالمية عظمى من خلال بوابة إفريقيا، وتزداد المنطقة أهمية في السياسة الروسية؛ نظرًا لموقعها الاستراتيجي كمفترق طرق يربط بين الأقاليم الخمسة للقارة الإفريقية، مما يُمكِّن موسكو من تمهيد علاقات مع دول المنطقة، بما يضمن لها الحصول على دعم أكبر على المستوى الدولي في مواجهة العقوبات الغربية وخاصة الأمريكية، إضافةً إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية الموجودة في المنطقة كالموارد والثروات الطبيعية؛ نظرًا لحاجة موسكو الحيوية إلى تأسيس تحالفات تجارية مع الدول الإفريقية، بما فيها الوصول إلى الأسواق الإفريقية لتوسيع دائرة المبيعات العسكرية الروسية، والمساهمة في تأسيس أسواق ناشئة وسريعة التطور، مما يسهم في تخفيف آثار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ 2014م. وفي الوقت نفسه الوجود بالقرب من مناطق التأثير الجيوسياسي في شرق وشمال القارة بهدف تعزيز النفوذ والحضور الدولي.
وتحاول موسكو استغلال ارتفاع مشاعر العداء للوجود الفرنسي؛ لفشلها في الحرب ضد الإرهاب في بعض دول المنطقة، وفي مالي خاصة، بتقديم نفسها كبديل ناجع في هذه الحرب. وقد نجحت هذه الإستراتيجية الروسية بالفعل، فبعد مالي، ارتفعت أصوات في المنطقة كبوركينا فاسو والنيجر بدعوة روسيا للتدخل، بينما تشهد تشاد مظاهرات بين حين وآخر للمطالبة بجلاء القوات الفرنسية، كما تحاول روسيا استغلال عزلة فرنسا في الساحة الإفريقية بتراجع الوجود الأمريكي وتردُّد القوى الأوروبية، في الوقت الذي تُواجه هي بنفسها صعوبات مادية ولوجستية في كسب معركة الإرهاب، مما يدفع بدول المنطقة للتحول نحو روسيا[8].
النتائج الأولية للتحالف الروسي المالي:
يمكن تقسيم هذه النتائج إلى قسمين:
1- نتائج مادية:
تتمثل في تزويد روسيا الجيش المالي بأسلحة ومعدات حربية متطورة في أقل من عام من التحالف، لم تحصل عليها طيلة فترة التحالف مع فرنسا منذ عام 2013م، فقد تسلم الجيش أولاً طائرتين حربيتين من نوع هليكوبتر جديدتين من صنع روسي يوم الاثنين 18 أبريل 2022م وأجهزة رادار للمراقبة. وفي 31 مارس الماضي تسلم الجيش طائرتين أخريين من طراز MI-35P، وأجهزة رادار حديثة، وأسلحة حربية وذخائر ومدرعات. وصرح وزير الدفاع لدى تسلمها أن الجيش الوطني أصبح يمتلك أسلحة تُمكِّنه من خَوْض معارك حربية ضد الإرهابيين بكل استقلالية دون الحاجة إلى جهة أخرى. وكان الجيش قد تسلم قبل هذه المعدات الحربية في 31 ديسمبر 2021م أربع طائرات هليكوبتر من طراز MI-171، وأسلحة حربية وذخائر[9].
وعنونت صحيفة “لومند” الفرنسية في عددها الصادر يوم 10 أغسطس2022م: “مالي تتسلم معدات حربية روسية”، وأشارت لطائرات مقاتلة وطائرات استطلاع وهليكوبتر هجومية. وأردفت أنه لا تتوفر معلومات بشأن ظروف شرائها، ولكن بماكو سحبت 420 يورو من الأسواق الإقليمية أي 277 مليار فرانك سيفا لهذا الغرض. وذكرت الصحيفة من المعدات الحربية طراز L39 سخوي25 وطائرات هليكوبتر من طراز [10] Mi24P.
وكان آخر سلسلة تسلم لمثل هذه المعدات خلال حفل كبير أقيم في مطار بماكو الدولي، والذي بُثَّ مُباشرةً على شاشة التلفزة الوطنية، بحضور رئيس المرحلة الانتقالية وكافة أعضاء حكومته، وأعضاء السلك الدبلوماسي، وجرى خلاله تقديم أهم حزمة من المعدات العسكرية، تكونت من أكثر من ثلاثين طائرة عسكرية، وتضمنت الحزمة طائرات من طرازات مختلفة، من طائرات مقاتلة وناقلات جنود مدرعة، وأسلحة حربية وأجهزة مختلفة، عززت الترسانة العسكرية وخاصة الأسطول الجوي إلى درجة لم تبلغها منذ الاستقلال.
2- نتائج عملية:
تتمثل في النجاحات التي حققها الجيش الوطني بعد تسلمه لهذه الأسلحة والمعدات روسية الصنع. وذلك أنه بعد تسلمها فإنها تُوجّه مباشرة إلى جبهات القتال المختلفة، وقد مكَّنت الجيش الوطني لحد الآن من تحقيق انتصارات مهمة على مختلف الجبهات، فتمكن الجيش بها من تغيير الوضع العسكري على الساحة، فبدلًا من أن يكون الإرهابيون هم المهاجمين في كل مرة، فقد تحوَّل الجيش إلى مهاجم، ففي ظرف زمني وجيز تمكن الجيش من استهداف معاقل الإرهابيين، ومطاردة المتمردين، وفك حصار المدن والقرى المحاصرة، وتمكَّن من أن يطأ أماكن كانت محرمة عليه مدة سنوات حكم الرئيس الراحل إبراهيم بوبكر كيتا، ومدة وجود القوات الفرنسية بالمنطقة، فقد عاد اللاجئون والمهجرون إلى بعض قراهم، وبدأ المزارعون يزرعون أراضيهم في أجواء آمنة، وتيسر تنقل التجار في التنقل بين الأسواق.
أما عن التعاون على مستوى القوات البرية، فلئن كانت فرنسا تزعمت حملة دولية ضد تدخل مرتزقة روس في مالي باسم “فاغنر” وقيامهم بعمليات تنكيل وانتهاكات لحقوق الإنسان في شمال مالي، وتظهر بعض الصور رجالًا ذوي هيئة أوروبية ضمن السرايا والكتائب العسكرية، كما كان الحال في قاعدة “غوسي” العسكرية، قالت مصادر إنهم من عناصر “فاغنر” يقومون بحفر مقابر جماعية لمدنيين نَكَّلُوا بهم بعد انسحاب القوات الفرنسية من القاعدة لصالح الجيش المالي.
ولكن الحكومة نفت دومًا وجود جنود من عناصر ” فاغنر”، بل الموجود عناصر من الجيش الروسي النظامي لتدريب عناصر الجيش الوطني، ووصفت التصريحات الفرنسية بالمزاعم المعادية، وكان قد صحب بداية التعاون الروسي المالي صخب إقليمي كبير وإنذارات من عواقب استقدام عناصر “فاغنر” إلى المنطقة، وخاصة من “الإيكواس”.
ولكنَّ الحكومة لم تُلقِ بها بالًا، وتشبثت بموقفها المبني على السيادة الوطنية، ومبدأ حرية التعاون مع من ترى مصلحتها الوطنية معه، وتقوم فرنسا بدعاية إعلامية نشطة في هذا الموضوع ضد الحكومة المالية، قالت من خلالها: إن الحكومة تقوم بصرف الأموال الموجهة للتنمية والصرف الصحي والدعم الاجتماعي لتسديد أجور المرتزقة الروس، مما يزيد الوضع الاجتماعي والصحي سوءًا.
وعلى أي حال، فإن مستقبل التحالف الروسي المالي، بل وتوسُّعه لدول أخرى مجاورة نادت باستقدام روسيا للمساعدة في الحرب على الإرهاب، في ظل المد الإرهابي مع الوجود الفرنسي، كبوركينا فاسو والنيجر، مرهون بتحقيق نجاحات وانتصارات ميدانية.
خاتمة:
كانت القوات الفرنسية قد استُقْبِلَت استقبالًا شعبيًّا عندما تدخلت في مالي لأول مرة تحت اسم “سيرفال”، وتصدت للمتمردين، وأوقفت زحفهم نحو العاصمة بماكو في 13 يناير 2013م، ولقد سمَّى بعض المواطنين أبناءهم باسم أول جندي فرنسي سقط دفاعًا عن مالي “دانيال بواتي”، كما سمى آخرون أبناءهم باسم الرئيس الفرنسي السابق “فرانسوا هولاند” الذي وافق وأمر بالتدخل الفرنسي.
ولكن عندما تحوَّلت عملية التدخل إلى “بركان”؛ عجزت عن محاربة الإرهاب، بل وقام الإرهابيون بكل أنواع الاعتداء مع وجودها، فإنها واجهت غضب الشعب، فطالب بإنهاء مهمتها، وخروج جنودها من البلاد. واليوم كيف ستتصرف القوات الروسية؟ وماذا سيكون مصيرها؟ هذا ما ستُجيبنا عنه أحداث قادم الأيام حسب تصرف ومسار الوجود الروسي في مالي.
محمد بن مصطفى سنكري / باحث في الشؤون الإفريقية – بماكو
المصدر: مجلة قراءات إفريقية