تُعد النيجر أكبر دول الساحل الإفريقي مساحةً، وتتمتع بموقع استراتيجي يجعلها همزة الوصل بين دول إفريقيا جنوب الصحراء وشمال إفريقيا، وصولًا إلى أوروبا، إضافةً إلى أنها سابع أكبر مصدر لليورانيوم في العالم، وهو الوقود الحيوي للطاقة النووية؛ حيث يذهب رُبعه إلى أوروبا خاصةً فرنسا, ورغم توافر الثروات والمعادن واكتشاف البترول والذهب والغاز الطبيعي؛ إلا أن أغلب المواطنين يعانون من الفقر؛ حيث إن اثنين من كل خمسة أشخاص يعيشون في فقر مدقع، إضافةً إلى هشاشة الدولة حتى في ظلّ كثافة الوجود الأجنبي فيها، والمتمثل في القواعد العسكرية الفرنسية والأمريكية؛ إلا أنها لم تستطع التصدي للهجمات الإرهابية التي تُنفِّذها القاعدة وداعش وبوكو حرام مُخلِّفةً آلاف الضحايا.
كما تعاني النيجر من الانقسامات الطائفية؛ حيث إن التكوين العسكري في البلاد يعتمد على عرقيات وإثنيات محددة يختلف عنها الرئيس محمد بازوم الذي ينحدر من أقلية عربية، ويُوصَف دائمًا بأنه الرئيس الأجنبي، وفي ظل هذه الدوافع وعدم وجود رادع للانقلابات العسكرية في منطقة غرب إفريقيا، والتي تنتشر بها الانقلابات العسكرية وعدم التصدي لها مِن قِبَل الاتحاد الإفريقي أو الإيكواس؛ حدث الانقلاب العسكري في النيجر في يوليو 2023م، والذي يمثل تهديدًا للاستقرار في منطقة الساحل الإفريقي.
بالتالي، وبالنظر إلى أهمية النيجر الاقتصادية كموقع جيواستراتيجي، والذي جعلها مركزًا للتنافس الأجنبي للسيطرة على الموارد والثروات؛ عملت روسيا على تعزيز نفوذها في القارة الإفريقية بشكلٍ عامّ على مختلف الأصعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية لتحقيق مصلحتها الوطنية؛ حيث إن المصلحة الوطنية هي المُحرّك الأساسي للعلاقات الخارجية التي تهدف روسيا من خلالها لتعزيز نفوذها، ومحاولة اكتساب دعم الدول الإفريقية في الأمم المتحدة، خاصةً عقب الحرب الروسية الأوكرانية؛ لتخفيف الضغوط عليها، واتضح النشاط الروسي في إفريقيا بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وظهر تدخلها في العديد من الأزمات, مستخدمةً أدوات مختلفة اقتصادية؛ مثل إسقاط الديون عن بعض الدول الإفريقية، بالإضافة إلى أدوات عسكرية وإعلامية متنوعة.
أدوات تحقيق المصالح الروسية في النيجر:
كما ذكرنا؛ فإن الأهمية الاقتصادية للنيجر بالنسبة لروسيا تنبع من اعتبارها سابع أكبر مُنْتِج لليورانيوم في العالم، وهو الوقود الحيوي للطاقة النووية، إضافةً إلى الأهمية العسكرية المتمثلة في تصدير السلاح للنيجر وتدريب الجنود. وفي سبيل تحقيق روسيا مصالحها استخدمت عدة أدوات تتمثل في ما يلي:
أولاً: الأدوات العسكرية
عسكريًّا يتضح نشاط الوجود الروسي في إفريقيا بشكل عام؛ حيث إن لديها اتفاقات تعاون عسكري مع ما يقرب من عشرين دولة إفريقية، ووفقًا لإحصائيات معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام؛ تعد موسكو أكبر مُورّد للسلاح إلى إفريقيا في الفترة بين 2017 إلى 2021م؛ حيث إنها كانت مسؤولة عن 44% من واردات الأسلحة إلى إفريقيا؛ لتتفوق على الولايات المتحدة الأمريكية التي قدّرت وارداتها بـ17% في نفس الفترة.
وعلى الرغم من عدم وجود قواعد عسكرية روسية في النيجر؛ إلا أن وجودها محسوس؛ حيث وقّعت روسيا اتفاقات عسكرية رسمية مع النيجر لمحاربة الإرهاب وتبادل المعلومات في الجانب العسكري لتعزيز الأمن الدولي؛ إضافةً إلى تطوير التعليم العسكري والرعاية الطبية العسكرية.
أما على المستوى غير الرسمي فيتمثل في الحضور الواسع للشركات العسكرية الروسية التي تنشط في عدة دول إفريقية، خاصةً مجموعة فاغنر wagner التي اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية روسيا بأنها تعتمد عليها كذراع عسكري في الدول الإفريقية لتعزيز وجودها العسكري.
إضافةً إلى ذلك؛ ذكرت واشنطن بوست أنه نقلًا عن معلومات استخباراتية أمريكية مُسرّبة في أبريل الماضي؛ فإن فاغنر تسعى إلى إنشاء اتحاد كونفدرالي مُوحَّد من الدول الإفريقية، يضم بوركينا فاسو ومالي وتشاد وغينيا ومالي والنيجر والسودان.
وعلى الرغم من عدم ثبوت تورط فاغنر في الانقلاب؛ إلا أنها اتُّهِمَتْ بنشر شائعات عن الانقلاب قبل حدوثه، وبعد حدوث الانقلاب رحَّبت فاغنر بالانقلاب في النيجر، ووصفته بأنه بمثابة انقلاب على إرث الاستعمار.
ثانيًا: الأدوات الدبلوماسية
يُوصَف الموقف الدبلوماسي الروسي بالمحايد تجاه الانقلاب في النيجر؛ حيث أعلنت الخارجية الروسية عن رغبتها في الوساطة مع الاتحاد الإفريقي وغيره من المنظمات للتغلب على الأزمة؛ إلا أنه على الرغم من ذلك هناك اتهامات غربية لروسيا بدعم الانقلاب بشكل غير مباشر، واتضح ذلك عندما حذَّرت روسيا المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) من التدخل العسكري؛ حيث أعربت الخارجية الروسية عن أملها في التوصل لتسوية دبلوماسية؛ لأن أيّ تدخُّل سيُؤدِّي إلى مواجهة طويلة الأمد وزعزعة الاستقرار في منطقة الساحل الإفريقي بالكامل.
ثالثًا: الأدوات الدعائية والقوة الناعمة:
ترتكز السياسة الروسية على الأدوات الدعائية بشكل أساسي؛ وذلك من خلال شنّ حملات تؤكد على أن روسيا تدعم الحكم الذاتي والسيادة في الدول الإفريقية على العكس من الدول الغربية وفرنسا التي يربطها تاريخ استعماري طويل بالدول الإفريقية من خلال شبكات مثل russosphere التي تنشر أفكارها عبر الفيسبوك وتويتر وتليجرام، وتتهم فرنسا والغرب بالرغبة في مواصلة الاستعمار.
وفي السياق نفسه؛ فإن هذه الشبكات ساهمت بشكل غير مباشر في حدوث الانقلاب في النيجر؛ حيث إنه بالإضافة إلى هشاشة الدولة، والركود الاقتصادي؛ يُعزَى الانقلاب إلى رفض الوجود العسكري الأجنبي المُكثّف، خاصةً الأمريكي والفرنسي، الذي فشل في التصدي إلى الهجمات الإرهابية من القاعدة وداعش وبوكو حرام في النيجر، مما خلَّف آلاف الضحايا، مع المطالبة باستبداله بروسيا متمثلة في جماعات فاغنر التي أثبتت قدرتها على التصدي للإرهاب في الدول المجاورة، وبالفعل خرجت مظاهرات في النيجر بعد الانقلاب تؤيد روسيا وتطالب بضرورة تدخُّل فاغنر؛ وبالتالي، فانقلاب النيجر والذي لا يُعدّ الأول من نوعه في المنطقة، له تداعيات خطيرة سوف تؤثر على الأوضاع المختلفة في البلاد.
تداعيات انقلاب النيجر:
تعد النيجر بؤرة مناسبة لتنامي الجماعات الإرهابية، على غرار الدول المجاورة لها، مثل مالي وبوركينا فاسو. بل ستزيد هذه الجماعات من حالة الضعف التي يعاني منها الشعب النيجري وتفككه وانقلاباته على الحكم، والطمع الخارجي في ثروات البلاد الهائلة، رغم عدم تمتُّع الشعب بخيراتها.
وستمتدّ تداعيات الانقلاب لخارج حدود النيجر إلى الجوار الإقليمي؛ فالانقلابات في البلدان الإفريقية تُعدّ مثل المَرَض المُعدي سريع الانتشار، ينتقل من بلد إفريقي إلى آخر، مستغلًّا ضَعْف هذه المنطقة واستعدادها لذلك، بالإضافة إلى اتساع نفوذ الإرهاب والجرائم المُنظَّمة التي تمثل الصائد المنتظر لحدوث ذلك والتخطيط المسبق له.
وبالخروج من الحيّز الجغرافي الإفريقي، يُعتبر أحد أهم التداعيات للانقلاب هو الخروج الأوَّليّ لباريس وواشنطن من المنطقة، وهو ما تخشاه الولايات المتحدة والجماعة الأوروبية، ولكنَّ موسكو تعتبره انتصارًا ضِمْنيًّا لها وبدايةً مُوفَّقة لتوسُّع وجودها في القارة الإفريقية.
من جهة أخرى، قد لا ترضى الولايات المتحدة والجماعة الأوروبية عن هذه النتيجة، وتلجأ إلى دفع الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “إيكواس” للتدخل عسكريًّا، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه في النيجر، وضمان عودة الرئيس النيجيري محمد بازوم، أو استخدام الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية، خوفًا من تطور الأوضاع نتيجة للتدخل العسكري والتهديدات من كلّ من مالي وبوركينا فاسو إذا حدث ذلك.
بالرغم من كل هذه السيناريوهات المختلفة والحلول المؤجَّلة؛ إلا أن المجتمع الدولي والإقليمي لم يعلنا رسميًّا مسؤولية موسكو عن ما يحدث في النيجر أو دعمه، ففي تصريح لوزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” ذكر أن ما يحدث في النيجر لا علاقة لروسيا أو مجموعة فاغنر به؛ رغم تحذيره من أن الأخيرة قد يتم استغلالها في خلق حالة من عدم الاستقرار.
وأيضًا نفى وزير الدفاع الفرنسي علاقة فاغنر بما حدث في النيجر مؤخرًا، رغم تحذيره أيضًا من تخوُّف استغلالها للانقلاب ودعمه، وأكمل أن استمرار عدم الاستقرار في النيجر قد يُعطِّل مكافحة الإرهاب في المنطقة، بل قد يسمح باتساعه وانتشاره، وهو ما يخشاه المجتمع الدولي.
أما عن حديث إيكواس عن رد فعل روسيا وتصريحاتها تجاه انقلاب النيجر؛ فقد قال كين إيف المستشار السابق للمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس): “إن التحذير الروسي من أي تدخل عسكري في النيجر لن يؤثر في خيارات المجموعة، التي لن تقبل خيار “عدم عمل أي شيء”، مشدّدًا على أنه في حال لم تفلح الدبلوماسية؛ فإنه لا مناصَ من استخدام القوة، وأضاف بأنه سيكون مرفوضًا تمامًا لروسيا أن تتدخّل في حال ما تم القيام بعمل عسكري في النيجر، رافضًا كون التحذير الروسي تهديدًا، في ظل ما تعلمه موسكو من أن (إيكواس) تسعى بشكل حقيقي لمعالجة الأزمة عبر المسارات الدبلوماسية قبل أيّ تدخُّل”.
في حين حذر بازوم -الرئيس النيجري المحتجَز-، في تصريح له نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، “أن الانقلاب يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على بلاده، وحذر من أن مجموعة فاغنر الروسية لها وجود في منطقة الساحل، وأن هذا الانقلاب قد يجعل المنطقة أكثر عُرضة للنفوذ الروسي. ودعا بازوم الحكومة الأمريكية والمجتمع الدولي إلى المساعدة في استعادة النظام الدستوري، مضيفًا أن “النيجريين لن ينسوا أبدًا دَعْمكم في هذه اللحظة المحورية في تاريخنا”.
أما عن الشارع النيجري، فهناك انقسام بين صفوف مؤيدي الانقلاب ومعارضيه، وشُوهِد في مظاهرة لمؤيدي الانقلاب مَنْ يرفعون علم روسيا عاليًا أمام الجمعية الوطنية في نيامي، وهو ما قُوبِلَ من جهة المجتمع الدولي على أنهم يُرحِّبون بتصريحات روسيا تجاه الانقلاب، ويرفضون التدخل الفرنسي مرة أخرى.
وأخيرًا، فهذه المُقدَّرات كلها وتضارب مؤيدي الانقلاب النيجري ومعارضيه؛ لم تؤكد رسم السيناريو الواقعي لمستقبل النيجر، ومن المحتمل حدوث أحد السيناريوهين:
الأول: في حالة نجاح الانقلاب، وعزل بازوم سوف يتمدد النفوذ الروسي بشكل أكبر وملحوظ في النيجر، بل والمنطقة ككل، وإمكان المشاركة الصينية في هذا التمدد.
الثاني: أما في حالة فشل الانقلاب –وهو احتمال ضعيف رغم مقتل قائد فاغنر–؛ فستستمر الشراكة الفرنسية وهيمنة باريس على النيجر، وتعزيز النفوذ في المنطقة، ومحاصرة التمدد الروسي الصيني، وهو ما حاولت فرنسا في تصريحاتها الأخيرة إعلانه.
مروة علي هاشم –باحث دكتوراه في الشأن الإفريقي
إسلام مجدي شاكر- باحث ماجستير في الشأن الإفريقي
المصدر: قراءات إفريقية