باستقراء فاحص للأحداث السياسية التي شهدتها موريتانيا خلال عام 2023 نلاحظ استحواذ ثلاثة ملفات كبرى على الساحة السياسية، أولها وهو الأبرز الانشغال الشعبي والرسمي الكبير بمؤازرة الأهالي في غزة الذين واجهوا حرب إبادة وتهجيرا على يد الجيش الصهيوني المتوحش، والثاني هو محاكمة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز التي بدأت مستهل العام وانتهت آخره، والثالث هو الانتخابات العامة التي جرت منتصف العام بانعكاساتها وهزاتها. كان عام 2023 بحق عام طوفان الأقصى ليس بالنسبة للموريتانيين بل بالنسبة لعموم أحرار العالم شرقا وغربا شمالا وجنوبا.
ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع الطوفان، سارع الموريتانيون رئيسا وشعبا وحكومة لمؤازرة الأهالي في غزة في مواجهتهم لأبشع عدوان على يد إسرائيل وآلة بطشها المتوحشة.
وحمل الرئيس الغزواني في خطاباته العديدة، حكومة إسرائيل كامل المسؤولية عما جرى ويجري من تقتيل وتدمير، لكونها المتسببة فيما حصل باحتلالها واستيطانها لأرض الغير وعدوانها المتكرر على أهل هذه الأرض.
وأعلنت حكومة موريتانيا الحداد على شهداء مشفى المعمداني، كما ألغت الاحتفالات بعيد استقلالها تضامنا مع الأهالي في غزة.
وواكبت الأحزاب الموريتانية ومنتديات العلماء وحركات المناصرة الشعبية للشعب الفلسطيني معركة طوفان الأقصى التحريرية التي تقودها المقاومة الفلسطينية بوقفات الاحتجاج أمام السفارات الغربية، وبتسليم الرسائل الاحتجاجية لممثلية الأمم المتحدة وبجمع التبرعات وتسيير قوافل الإغاثة.
وأشركت عشرات البيانات الصادرة عن الأحزاب الموريتانية، الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة والدول المطبعة، مع العدو الصهيوني في المسؤولية عن تقتيل الأطفال وتهديم المنازل، وكل ما وقع في غزة.
محاكمة القرن
انشغل الموريتانيون على مدى عشرة من عام 2023 بمحاكمة رئيسهم السابق محمد ولد عبد العزيز وتسعة من أعوانه وأقربائه.
واستمرت هذه المحاكمة التي سميت «محاكمة القرن» عشرة أشهر كاملة عقدت خلالها عشرات الجلسات واستمعت المحاكمة للشهادات والمرافعات ولطلبات النيابة، كما استنطقت المحكمة خلالها المتهمين في عدة دورات.
وكان المثير في هذه المحاكمة هو تأكيدات الرئيس السابق أن ما بين 60 إلى 70 في المئة من ثروته التي لم يصرح بها مصدره الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني، الذي سلمه، حسب قوله أمام المحكمة، يوم 02 آب/اغسطس 2019 صندوقين أحدهما أبيض وفيه 5.5 ملايين دولار من طبعات نقدية قديمة والآخر رمادي، وفيه 5 ملايين يورو، من فئة 200 يورو.
وأصدرت المحكمة الجنائية المختصة في الفساد في موريتانيا، يوم الرابع كانون الأول/ديسمبر 2023 أحكامها بحق الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز والمتهمين معه في الملف رقم: 001/2021 المعروفة بـ «ملف العشرية».
وهكذا حكمت المحكمة على الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بالسجن 5 سنوات نافذة، وبمصادرة أمواله المتحصل عليها من جريمتي غسل الأموال والإثراء غير المشروع، كما حكمت عليه بدفع 500 مليون أوقية قديمة كتعويض للخزينة العامة، مع حرمانه من الحقوق المدنية.
ودخل هذا الملف القضائي المثير مسار الاستئناف عبر طلبات من جانبي النيابة العامة وهيئة الدفاع عن الرئيس السابق.
انتخابات وأزمة وميثاق
مما شغل المشهد السياسي الموريتاني في عام 2023 قضية الانتخابات التشريعية والجهوية والبلدية التي نظمت يوم 13 مايو/أيار في شوطها الأول وفي 27 منه، في شوطها الثاني.
وأسفرت هذه الانتخابات عن فوز حزب الإنصاف الحاكم بـ 107 مقعدا من أصل 176 هي عدد مقاعد البرلمان، وفوز التجمع الوطني للإصلاح والتنمية المعارض (المحسوب على الإسلاميين) بـ 11 مقعدا برلمانيا، بينما تقاسمت الأحزاب الصغرى بقية المقاعد، وخرجت أحزاب المعارضة الرئيسية مثل تكتل القوى واتحاد قوى التقدم من الجمعية الوطنية. وفاز حزب الإنصاف الحاكم بكافة المجالس الجهوية وعددها 13 كما فاز بغالبية المجالس المحلية وعددها 238 مجلسا.
ورفضت المعارضة نتائج الانتخابات ووصفتها بـ «المزورة» ونظمت مسيرة احتجاج كبرى، على تزويرها وطالبت بإعادتها غير أن الحكومة لم تلفتت لذلك واعتبرت أن أعضاء لجنة الإشراف على الانتخابات مكونة من المعارضة والموالاة وأنها أجازت النتائج.
وبعد تنصيب البرلمان الجديد والمجالس المنبثقة عن الانتخابات، وبعد احتجاجات المعارضة، فوجئ المشهد السياسي بإعلان الداخلية عن انبثاق مسار تشاوري معمق عن اتفاق سياسي يسمى «الميثاق الجمهوري» بين أطراف عدة هي أحزاب تكتل القوى الديمقراطية واتحاد قوى التقدم (من معارضة المهادنة) وحزب الإنصاف (الحاكم) والحكومة ممثلة بوزارة الداخلية واللامركزية.
ونظمت الحكومة حفلا لتوقيعه وأعلنت أطراف الميثاق أنه «تفاهم سياسي وطني جمهوري وديمقراطي مفتوح أمام جميع الفاعلين السياسيين، وأنه سيجنب موريتانيا النزوح نحو حلول غير مرغوب فيها كالانقلابات العسكرية».
شهد العام مصادقة البرلمان، في قرار غير مسبوق، تجريد النائب المعارض محمد بوي ولد الشيخ محمد فاضل من حصانته البرلمانية، قبل أن يعتقل ويحقق معه وذلك إثر مداخلة له أمام البرلمان انتقد فيها بشدة بطء تعامل السلطات مع إساءة للنبي محمد صلى الله وسلم، عثر عليها في ورقة امتحان.
ووجهت النيابة العامة للنائب تهم «نشر الإساءة، والقذف والتجريح بحق رئيس الجمهورية» للنائب محمد بوي ولد الشيخ محمد فاضل، وأحالته إلى قاضي التحقيق حيث أودع السجن قبل أن يطلق سراحه بعد شهرين من الاعتقال بكفالة مالية.
وهزت موريتانيا خلال عام 2023 ثورة مضادة لثالث محاولة تقوم بها الحكومة لتمرير قانون مكافحة العنف ضد المرأة والفتاة، وهي ثورة تواصلت على مدى أيام عبر فتاوى العلماء والرسائل الصوتية ووقفات الاحتجاج أمام البرلمان. واضطرت الحكومة للتراجع عن عرض القانون على البرلمان، وأحالته للمراجعة.
التدفق إلى فردوس أمريكا
من أهم الأحداث التي شغلت موريتانيا خلال العام التدفق غير المسبوق للمهاجرين الموريتانيين شبابا وشيبا إلى الأراضي الأمريكية، وهو الذي شغل أيضا حكومة الولايات المتحدة، التي نظمت رحلات تسفير مضادة لموريتانيين نحو بلادهم.
ومن أسباب القلق الأمريكي ما أكده حرس الحدود الأمريكي بخصوص توقيفه لنحو 14000 مهاجر موريتاني، بعد عبورهم الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري.
وحسب الإحصاءات الرسمية في الولايات المتحدة، فإن هذا العدد يمثل زيادة بنسبة 600 في المئة عن نفس الفترة من عام 2022 حيث لم يُعتقل سوى 228 مهاجراً موريتانياً متسللاً فقط.
ويعبر معظم المهاجرين الموريتانيين الحدود الأمريكية عبر ولاية أريزونا، وتصنفهم السلطات الأمريكية في خانة «الحالات الخاصة» لكونهم قادمين من بلاد «غير آمنة» تنتشر فيها «الجريمة والإرهاب» وفق تقارير وزارة الخارجية الأمريكية.
وشهد عام 2023 كذلك ترحيلا معاكسا من أمريكا إلى موريتانيا، قامت به الإدارة الأمريكية لمئات من المهاجرين الموريتانية غير النظاميين.
حل مجموعة الساحل
شهد العام حدثا هاما هو إعلان الحكومتين الموريتانية والتشادية، في بيان مشترك عن الرئيسين محمد الشيخ الغزواني ومحمد إدريس ديبي، عن «حل مجموعة دول الساحل الخمس مع تمسكهما بمثل التكامل الإقليمي الأفريقي وأهداف مجموعة دول الساحل الخمس».
وأكد البيان «أن الحكومتين ستنفذان جميع التدابير اللازمة وفقاً لأحكام اتفاقية إنشاء مجموعة الساحل الخمس، لا سيّما مادتها العشرين التي تنص على أنه يمكن حل مجموعة دول الساحل الخمس، بناء على طلب 3 دول أعضاء على الأقل؛ ويعلن مؤتمر رؤساء الدول والحكومات الحل بأغلبية الدول الأعضاء، ويحدد شروط مصير أصول المنظمة».
واستعاضت موريتانيا والاتحاد الأوروبي بموجب اتفاق وقع بين الجانبين يوم 15 كانون الأول/ديسمبر 2023 عن مجموعة الساحل بخلية إقليمية أوروبية مكلفة بالإرشاد والتنسيق لصالح دول الساحل.
الاستحقاق الرئاسي
شهدت الأسابيع الأخيرة لعام 2023 إرهاصات حملة رئاسية سابقة لأوانها تحضيرا للاستحقاق الرئاسي المنتظر منتصف عام 2024.
ودعت أحزاب الأغلبية الرئاسية الحاكمة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للترشح لرئاسة موريتانيا في مأمورية رئاسية ثانية وذلك لأسباب بينها دبلوماسيته النشطة والمهتمة بالقضايا الجوهرية، وعلى رأسها دعم الشعب الفلسطيني، والعمل مع كافة الشركاء على استرجاعه لأرضه المحتلة. ودعت الأحزاب «كافة القوى السياسية والمدنية والفاعلين والمواطنين إلى دعم خيار ترشيح الرئيس الغزواني من أجل موريتانيا آمنة ومستقرة ومزدهرة» مع أن معارضي الرئيس يرون ضرورة البحث الجاد عن بديل عنه.