وسط أمواج الأزمة الاقتصادية التي يتخبط فيها برشلونة، تفجرت الأوضاع في لحظات بكلمات ثقيلة ألقاها تشافي هيرنانديز، ولم يتحمل الرئيس خوان لابورتا وقعها، فأقال المدرب متراجعا عن قرار الإبقاء عليه.
لقد ضرب تشافي كل خطط لابورتا في دقائق من الصراحة المفرطة فقال إنه لا ينبغي لأحد أن يتحمس بشأن الميركاتو الصيفي المقبل، مؤكدا أن برشلونة لن يقدر على مجاراة كبار أوروبا وفي مقدمتهم ريال مدريد.
وصرح تشافي قبل مواجهة ألميريا في الليجا: “هذا لا يعني أننا لا نريد المنافسة وأننا لن نقاتل من أجل الألقاب، لكن هذا هو الوضع الذي يعيشه برشلونة”.
وتأتي هذه الحلقة ضمن سلسلة بعد ثالث التي تعنى برصد وتحليل العلاقة القريبة للغاية بين كرة القدم والعلم، الثقافة، الصحة، الاقتصاد، التغيرات الاجتماعية، وغيرها.
نقطة الصفر
ربما لا يعد هذا الوضع غريبا على تشافي والرئيس لابورتا فقد عاشا لحظات تخبط مماثلة قبل نحو عشرين عاما.
في 15 ديسمبر/كانون الأول 2002 مر برشلونة بأمسية فارقة: في ملعب كامب نو خسر 3-0 من إشبيلية بالجولة 14 من الليجا، بتشكيل ضم تشافي، تحت قيادة الهولندي لويس فان جال.
كان الفريق مُحبِطا، لكن ما جرى فور إطلاق صافرة النهاية بقي بمثابة فزاعة لكل رؤساء برشلونة اللاحقين.
لنحو 4 دقائق اشتعل الملعب ولوحت الجماهير (نحو 54 ألف مشجع) بالمناديل البيضاء للرئيس خوان جاسبرت أن ارحل الآن، وكان رده الغريب أن وقف ساكنا يستمع لهم ويديه خلف ظهره، كأنه يجلد ذاته، رافضا بغضب كل محاولات زملائه لإخراجه من الملعب، حتى تحرك بنفسه في مشهد كان عنوانه الوحيد “الإذلال”.
تسارعت الأحداث لاحقا واستقال المدرب فان جال (بعد 8 أشهر من ولايته الثانية) بعد خسارته الثامنة بالليجا أمام سيلتا فيجو (2-0) محتلا المركز 12 (23 نقطة) بفارق 20 نقطة عن المتصدر وقتها ريال سوسييداد، ونقطتين عن مراكز الهبوط.
وأخيرا قدم جاسبرت استقالته في 13 فبراير/شباط، بعد ثورة لسحب الثقة منه.
وفي نهاية فترة خليفته المؤقت إنريك رينا قال الأخير إن النادي يعاني عجزا قد يرتفع من 36 إلى 55 مليون يورو بنهاية الموسم، بينما توقع انخفاض الديون من 98 إلى 47 مليونا بنهاية يونيو/حزيران 2003.
وفي 16 يونيو/ حزيران 2003 انتخب الأعضاء المحامي الطموح خوان لابورتا رئيسا لبرشلونة.
كان لابورتا من الشباب المعارضين للرئيس الأسبق لويس نونيز منذ 1997، احتجاجا على تجاوزاته والاستخدام السيئ لأموال النادي، واستمر في نهجه حتى نهاية عهد جاسبارت.
أزمة في ثوب حل
راهن لابورتا بيقين على أن “الإنفاق” خاصة على ضم الأسماء الرنانة سيضرب عصفورين بحجر واحد: المنافسة على كل الألقاب، وجمع الأموال من كل الاتجاهات الممكنة.
نجحت الخطة وهيمن برشلونة عالميا، لكن ما لم ينتبه له لابورتا أنه وضع بيديه بذور أزمة أكبر، ومرت السنوات ليصطدم بتبعاتها هو نفسه الآن. لقد أدى ضم النجوم وتحقيق الألقاب لتضخم الرواتب بشكل خيالي.
ولما عاد في انتخابات مارس/آذار 2021 وجد لابورتا ناديا مفلسا تقريبا، بديون 1.35 مليار يورو، ورواتب متضخمة بعد استقالة الرئيس السابق بارتوميو.
في أغسطس/آب 2021، رحل ميسي ليوقع لابورتا على أول إخفاق، رغم وعوده الانتخابية بالحفاظ عليه، وشرب نوعا ما من كأس جاسبارت لما أفلت فيجو من بين يديه للريال.
في أكتوبر/تشرين الأول 2021 صرح الرئيس التنفيذي لبرشلونة فيران ريفيتر في مؤتمر صحفي أوجز فيه نتائج التدقيق الذي أجرته مجموعة ديلويت للمحاسبة: “لو كان برشلونة شركة عامة لربما تم حله”.
وكشف أن النادي واجه صعوبات في دفع الرواتب فور مجيء لابورتا “بسبب التدفق النقدي الصفري تقريبا”.
وسريعا حصلوا على قرض مؤقت بقيمة 80 مليون يورو “لتغطية التزامات الخزانة لمدة 90 يومًا”.
ثم كشفت مراجعة الشؤون المالية من موسم 2018-19 حتى مارس/آذار 2021 عن “أوجه قصور إدارية خطيرة” وأن الإدارة السابقة “كانت منفصلة عن الواقع في ملف شراء اللاعبين”.
لقد قرر لابورتا أمام هذه الفوضى أن يلجأ مجددا لحله القديم: “الإنفاق”! لكنه غامر بشدة، فباع أصول النادي والبث التلفزيوني وغيرها، تباعا لجمع نحو 700 مليون دولار، ومضى في الاقتراض.
ثم أنفق في صيف (2022) نحو 150 مليون دولار لضم ليفاندوفسكي وآخرين فأثار دهشة منافسيه، وزادت مخاوف وتساؤلات أعضائه أيضا: ماذا لو أخفقت خطته؟
رد لابورتا: “أنا لست مقامرا وأتحمل المسؤولية. المخاطر محسوبة”، مشددا على أن نجاح النجوم يعزز الموارد المالية ويضاعف الإيرادات في تكرار لوصفة 2003، حين كانت خسائر النادي ضعف إيراداته، وتجاهل فوارق الحالة والزمن.
في تقرير لنيويورك تايمز قال مارك دوتش أحد أعضاء النادي الذين أطاحوا بالمجلس السابق: “شعبية لابورتا السبب وراء إفلاته من المخاطر المالية. لو فعل بارتوميو الأمر نفسه لاشتعلت الأمور، واجتمعنا لطرده”.
وصرح فيكتور فونت الذي خسر الانتخابات ضد لابورتا بأن الأخير بعد انتخابه غيّر في قانون النادي فيما يتعلق بسوء الإدارة، وتضارب المصالح، وعين بعض أصدقائه وشركاء العمل السابقين وحتى بعض أفراد أسرته في أدوار تنفيذية.
وقال فونت: “إنه يخاطر بمستقبل النادي لا مستقبله. إذا لم تسر الأمور بنجاح سنصطدم بحائط”.
بات لابورتا غارقا في كل فترات الانتقالات في معارك مرهقة لتقليص رواتب النجوم بهدف ضبط الميزانية وضم لاعبين جدد.
تشافي على حق؟
في فبراير/شباط الماضي خفضت رابطة الليجا حد الإنفاق السنوي لبرشلونة بمقدار 71 مليون يورو ليتراجع من 270 إلى 204 ملايين يورو.
وإذا لم يتم التصحيح قبل الصيف فقد يواجه برشلونة أزمة كبرى فيما يتعلق بالصفقات التي سيطلبها المدرب الجديد.
ووفقا لـ شبكة ESPN يرتبط التخفيض الأخير لبرشلونة بالتأثير “التناقصي” المستمر لعوائد الأصول التي باعها النادي في 2022.
وذكرت: “الأموال الناتجة عن إحدى عمليات بيع الأصول لم تسدد بشكل كامل، كما لم تصل إيرادات النادي من تذاكر المباريات بالموسم الجاري بعد الانتقال للملعب الأولمبي لمستوى التوقعات”.
ونقلت فوربس قبل أيام عن مجلة لافانجارديا الكتالونية أن برشلونة يتفاوض هذه الأيام على قرض بقيمة 100 مليون يورو استعدادا لمعركة الصيف.
في مارس/آذار الماضي، قال فونت: “الهيكل التنفيذي الحالي للنادي من الثمانينيات، إن ترشحت لانتخابات 2026 سيكون هدفي تطويره وحماية هيكل الملكية والفوز بدوري الأبطال، وتكليف الأكفاء بتحديد التوجهات الاستراتيجية والعمليات اليومية”.
وقبل أيام طالب فونت مجددا باستقالة لابورتا مؤكدا تضرر صورة النادي بقضية تشافي الأخيرة، إضافة للوضع الاقتصادي المرتبك.
لكن بطبيعة شخصيته سيحاول لابورتا معاندة خصومه والطفو قدر الإمكان على سطح الأزمة المالية التي تكبله بقسوة، فهل يفلت من مصير جاسبارت وبارتوميو؟