بعد عشر سنوات من البؤس والشقاء عاشها الشعب الموريتاني في ظل النظام السابق، استشرى خلالها الفساد في جميع مفاصل الدولة وتجسد الإنهيار التام في شتى المجالات ، الأخلاقية والقيَّمية ، وبعد ان اصبحت موريتانيا تحتل ذيل المراتب في كافة المؤشرات العالمية الإيجابية، وتتصدر تلك السالبة، وعاش الشعب أشد درجات التأزيم وتوتر الأجواء، بسبب تأجيج نار الفتنة بين مختلف فصائل الشعب وشرائحه، بإرادة من ذلك النظام،
سنوات شهد الإقتصاد الموريتاني خلالها أسوأ مراحله، حيث تم إبرام صفقات كبرى مشبوهة مثل هوندونگ ورصيف الحاويات بميناء انواكشوط المستقل، وخدمات المطار وغيرها من الصفقات سيئة الصيت، فضلا عن استيلاء المتنفذين على املاك المواطنين، عن طريق ما يعرف بعمليات ببيع الأراضي بأثمان خيالية وغير صحيحة ، في نفس الوقت، وبعد ان بلغت المديونية العامة مستويات قياسية، لايمكن معها الوثوق بموريتانيا كشريك إقتصادي لمختلف الشركاء والمانحين ، وفي محيط معقد ، يتميز في ذلك الوقت بتوتر شديد في العلاقات الديبلوماسية مع كافة الجيران المحيطين ، ودول الإقليم ،
وفي جو يوصف من بعض المراقبين المتفائلين بمرحلة قريبة من الأنهيار والشلل التام،وعجز الدولة في ذلك الوقت عن الإيفاء بجل إلتزاماتها خارجيا وداخليا، وقد اتضح ذلك فيما بعد ، عبر كلمة الوزير الأول آنذاك أمام البرلمان في أول خطاب له في عهد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ، حيث قال بالحرف الواحد إن خزينة الدولة عشية وصول الرئيس ، محمد ولد الشيخ الغزواني لايوجد بها إلا 26 مليارا قديمة أكثر من نصفها ، عبارة عن دعم من البنك الدولي،
في هذه الوضعية السيئة للغاية والمزرية، يتم انتخاب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، حيث كان من المفترض أن يبداً مباشرة بوضع خطط إصلاحية مختلفة وفي مجالات مختلفة، وبشكل متزامن ، لكنني أعتقد ان الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ، فضَّل في البداية - وخيرا فعل- مايشبه إعادة التأسيس.
حيث جاء مبشرا بسياسة جديدة، تحمل روح الانسجام والوئام بين جميع شرائح الشعب، وسالكا مسلك التهدئة السياسية الشاملة لمختلف الفرقاء السياسيين لخلق فضاء يسمح بوضع استراتيجيات تنموية فاعلة ومستديمة،
كانت الخطوة الأولى من خطوات الرئيس تعتمد الجانب الاجتماعي، حيث تم التركيز على الفئات الهشة، فتم توزيع الإعانات النقدية المباشرة، وتوفير التأمين الصحي وزيادة أجور المتقاعدين، وكلها كانت خطوات هامة في سبيل الرفع من قيمة المواطنين ومنحهم أبسط الحقوق في وطنهم من خلال العيش الكريم.
وكانت الخطوة الثانية، تعتمد إرساء قواعد المدرسة الجمهورية، بما تحمله من قيم المساواة والتقارب بين مختلف شرائح الشعب وفئاته.
ثم يتم التدرج بعد ذلك لوضع عجلة اقتصاد البلاد على السكة الصالحة بعد انحارافها عشر سنوات في ظل سوء التسيير الأحادي ،
ثم لتبدأ عملية ترميم العلاقات الديبلوماسية مع كافة الجيران والمحيط الأقليمي ، وكلها ملفات تهون معالجتها ، بعد ترميم ما كان قد تحطم من القيم والمثل الأخلاقية، لدى أجهزة النظام آنذاك، حيث كانت بلادنا قد عرفت وفي أول مرة من تاريخها، أرخص عمليات التنصت على الأفراد وانتهاك حرماتهم، وشهد قاموس الألفاظ في أعلى سلم الدولة أدنى درجات الانحطاط من خلال التلفظ بالألفاظ الرخيصة والعبارات النابية ، مرورا باحتقار رموز المجتمع وسيادة الدولة والقانون،
لذلك كان لزاما على رئيس الجمهورية- وهو العارف بضرورة المحافظة على الأخلاق والقيم أن يبدأ من حيث ينبغي أن يبدأ.
وليس أدل على ذلك، مما عبر عنه جميع من قابلوه من داخل الوطن وخارجه، ولعل آخر استشاد يمكن أن يؤكد تلك الحقائق، هو ماعبر عنه الأستاذ اسامة سرايا رئيس تحرير جريد الأهرام سابقا ، وذلك بعد زيارة رئيس الجمهورية لجمهورية مصر العربية الشقيقة حيثقال:
(خطفنا الرئيس الموريتانى، محمد ولد الغزوانى خلال زيارته السياسية، والاقتصادية لمصر فى التعبير عن بلاده، وعن أحوال العرب، وإفريقيا، فقد كانت تصريحاته تتسم بالعمق، والفهم الإستراتيجى لأحوال منطقتنا، وقارتنا الإفريقية، خاصة المناطق الملتهبة، والحساسة (السودان، وليبيا، وحوض النيل).
لقد وصف الرئيس الموريتانى الموقف المصرى السياسى، والإستراتيجى بدقة عندما قال صبر مصر، وما تتحلى به قيادة الرئيس السيسى فى معالجة القضايا الإفريقية فى السودان، وليبيا، وحكمته فى التعاطى مع قضية مياه النيل.
إن مصر تجد فى موريتانيا شريكا إستراتيجيا، وقادرا، ومرتقبا، وقويا للتعاون فى مجالات عديدة، وفى تفكيك، وحل الأزمات التى تواجه الدول الإفريقية، والتى تشترك معها، وتتأثر بها فيما يحدث منها من مشكلات، وتراكمات، وعدم مواجهة حاسمة للحروب، والانقسامات التى بدت واضحة فى قارتنا، خاصة الجزء العربى منها.
إن الأرقام تتحدث عن أن موريتانيا من الاقتصادات الواعدة (عربيا وإفريقيا)، فهى تدخل نادى المنتجين للغاز، وتشير الاحتياطات هناك إلى أكثر من 100 تريليون قدم مكعب، وهو ما يجعلها تقفز إلى المرتبة الثالثة إفريقيا، بعد نيجيريا، والجزائر.
نحن أمام بلد يتحول من الفقر إلى الغنى، مصحوبا بالاستقرار السياسى، والأمنى، وإذا كانوا لا يعرفون، يجب على المستثمرين، ورجال الأعمال أن يدركوا أن موريتانيا من أكبر البلدان المنتجة لأنواع الأسماك الفاخرة (٣٥0 نوعا من الأسماك، منها ١٧٠ نوعا قابلة للتسويق العالمى)، وتصنف الفاو والاتحاد الأوروبى موريتانيا ثانى أكبر بلد إفريقى فى إنتاج الأسماك بعد المغرب، وتحتل المرتبة العشرين عالميا. إننا أمام بلد عربى صغير نحو (٤٫٥ مليون نسمة)، ويحتوى على ثروات شاسعة، وشواطئ على المحيطات والأطلسى، ويفتح ذراعيه لمصر، ومؤكد أن اجتماعات اللجنة الأولى المشتركة فى يوليو إذا انضم إليها رجال الأعمال المنتجون للأسماك وتصنيعها فسيجدون فرصا تفيدهم، وتفيد موريتانيا، إذا أدركوا أن فى انتظارهم سوقا واعدة، وحيوية، ومرتقبة، والأهم لنا أنهم أشقاء يحبوننا، وقَدِموا الينا، وهم قادمون إلى السوق الإقليمية، والعالمية، لأنهم يملكون إمكانات هائلة قد تجعل من بلدهم فى سنوات وجيزة خليجا جديدا فى الشمال الإفريقى.) انتهى الإستشهاد ، ذلك غيض من فيض ، فالرجل استطاع بحكمته وحنكته وكِياسته وتبصره وبُعد نظره ورجاحة عقله وصبره وتأنِّيه ، ان يبدأ في إعادة التأسيس من جديد ، على أسس الأحترام والمحافظة على أخلاق وقيم المجتمع ، إضافة إلى الكثير من الميزات الشخصية التي تخول الرجل لزعامة الدولة والمجتمع ، سنتعرض في الحلقة المقبلة من هذه السلسة للمزيد إن شاء الله………… ………..