فخامة الرئيس:
تشكّل التظاهرات الثقافية الوطنية الكبرى رافدا أساسيا من روافد التنمية في أي بلد... ويعتبر مهرجان مدائن التراث مرجعا ذا دلالة عميقة في هذا المجال، بالنظر إلى ما يُنتظر منه من إعادة الاعتبار للمدن التاريخية الأربعة، ومن تحسين الظروف المعيشية لساكنيها... وهذا ما أكدتم عليه في آخر خطاب رسمي لكم في مهرجان (ولاته) للسنة المنصرمة حيث قلتم إن "المكونة الإنمائية لهذه النسخة تضمنت العديدَ من البرامجِ المتعلقةِ بفك العزلةِ، وبتحسين مستوي النفاذِ إلى الخِدْماتِ الأساسيةِ، كالماء والكهرباء، والصحة، والتعليم والاتصالات، وبدعم قدرةِ المواطنين على الصمود، بتَوسيع استفادتهم من شبكة الأمانِ الاجتماعيِ، والعملِ على ترقيةِ إنتاجِهم المحلي، وأنشطتهم المدرة للدخل، موازاةً مع دعم قدراتهم في مجال صيانة المخطوطات والمحافظة على العمران الأثري" انتهى الاستشهاد.
وتجسيدا لهذه الأهداف التنموية النبيلة التي صغتموها في خطابكم الولاتي، أنفقت الدولة ميزانيات ضخمة ظلت تتزايد بشكل مطرد على مدى السنوات المنصرمة. وما زلنا نذكر أن النسخة الأولى التي أقيمت في شنقيط سنة 2011 كلفت ميزانية المهرجان 95 مليون أوقية حسب تصريح وزيرة الثقافة آنذاك، وفي النسخة الموالية لسنة 2012، في (ودان) بلغت كلفته 215 مليون أوقية.
أما هذه السنة (2024) فقد بلغت ميزانية المهرجان، في سابقة تاريخية، ما يقرب من 16 مليار أوقية (أي ما يناهز 40 مليون دولار). منها 12 مليار أوقية مخصصة، حسب تصريح وزير الثقافة الحالي، لإنشاء طريق معبّد يربط شنقيط بأطار.
وهو استثمار محمود إن كان سيفضي إلى تنمية حقيقية، لكن التجارب السابقة علمتنا أن المشاريع التنموية يتم وأدها في المهد، عبر الاستحواذ عليها من طرف لوبيات الفساد. والدليل على ما أقول مشروع آفطوط الشرقي الذي أظهرت بعض التحقيقات المستقلة أن 90 في المائة من كلفته المالية تم التحايل عليها من طرف بعض الشركات العاملة في المشروع.
ورغم الزيادة المستمرة كل سنة في ميزانية المهرجان، فقد لاحظنا أن الأثر الرجعي على مدائن التراث وسكانها لم يصل إلى المستوى المنشود، والشاهد على ذلك محدودية نفاذ السكان إلى الخدمات الأساسية في المدن المستهدفة، واشتداد وطأة الظروف المعيشية للسكان المحليين وغياب البرامج التنموية الجادّة التي تساعد السكان على الصمود.
وبين يدي النسخة الثالث عشرة من مهرجان مدائن التراث التي يُحضَّر لها حاليا في مدينة شنقيط، يحسن بنا وبكم أن نتساءل عن مآلات هذا المهرجان السنوي ذي الكلفة العالية، وعن ما قدمه من مشاريع تنموية حقيقية للمدن والسكان المستهدَفين:
فرغم الزخم الإعلامي والكلفة المالية الباهظة، لنا أن نسأل: هل استطاع (مهرجان مدائن التراث) أن يفك من عزلة هذه المدن على مدى الثلاث عشرة سنة المنصرمة من تاريخه؟ وهل حسّنَ من مستوى النفاذ إلى الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء مثلا؟ أم هل أضاف شيئا جديدا ذا قيمة، ومستمرا، في حياة الساكنة المحلية؟ هل خفف من زحف الرمال عن هذه الحواضر التاريخية؟ هل أنشأ طرقا أو أقطابا تنموية؟ وهل نجح في تثبيت السكان في ديارهم والحد من نزيف الهجرة نحو العاصمة؟
وماذا أفاد المهرجان شبابَ هذه المدن؟ هل استطاعت الوزارات المعنية دمجهم وتكوينهم وتشغيلهم، أم هل ساعدت السكان في تأسيس مشاريع مدرة للدخل؟
وماذا عن الكنز الثقافي المطمور في المكتبات الأهلية؟ هل قامت الوزارة المكلفة بجهود من أجل صيانته، كطباعة بعض المخطوطات مثلا أو نفض الغبار عنها وترميمها على الأقل؟
تلكم أسئلة كثيرة يطرحها سكان "مدائن التراث" كل سنة وهم يستعدون لتحضير هذا المهرجان الصاخب، دون أن يجدوا لها جوابا شافيا.
الإنجازات على الأرض: مدينة (ولاته) كنموذج
للبحث عن جواب عن هذه التساؤلات يكفي أن ننظر إلى مدى مردودية المهرجان على السكان المحليين، ولتوضيح ذلك، اسمح لي فخامة الرئيس أن آخذ، مدينة ولاته كمثال نموذجي، وهي التي احتضنت هذا المهرجان ثلاث مرات آخرها سنة 2023، فرغم الميزانيات الهائلة التي تم إنفاقها في تنظيم ثلاث مهرجانات، لم تستفد الساكنة المحلية طيلة الثلاث عشرة سنة الماضية من مردودية حقيقية للمهرجان، بل لم تكن التدخلات الاستعجالية بذات فعالية: فالماء غير متوفر بشكل منتظم، والعمل الجاري في "مشروع بحيرة اظهر" تطبعه الرداءة وقلة الاحترافية لدى فنيي المشروع، حيث أن أنابيب شبكة الماء ممزقة ومنتشرة في أزقة وشوارع المدينة مما يشكل خطرا حقيقيا على سلامة السكان، والنفاذ إلى خدمة الكهرباء محدود جدا، وشبكة وسائل الاتصال ضعيفة التغطية، كما أن شبكات الأمان الاجتماعي، التي تحدثتم عنها في خطابكم الأخير، ينقصها التوسع والفاعلية... وباختصار، فإن الحياة الاقتصادية في المدينة هي نفسها منذ عشرات السنيين...
أما السكان فازدادت ظروفهم المعيشية سوءا، وتردت أوضاعهم الاقتصادية، وانتشرت بينهم الأمراض الناتجة عن شرب الماء المالح من آبار المدينة، إذْ لم يستطع مشروع تزويد المدينة بالمياه أن يحقق الحاجيات الأساسية للسكان بسبب رداءة إخراجه، وعدم قدرته على الوصول إلى السكان الأكثر حاجة.
وتستمر عزلة المدينة وتتفاقم، فلا طريق معبدا يربطها بعاصمة الولاية (النعمة)، مما أدى إلى تفشي ظاهرة نزوح السكان إلى الولاية أو إلى العاصمة لتسجيل أبنائهم في المدارس ولأغراض اقتصادية متعددة.
ونفس المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ما انفكت تعاني منها (مدائن التراث) الثلاث الباقية: تيشيت وشنقيط وودان...
ومن باب الموضوعية، يمكننا القول إنه لم يستفد السكان المحليون من (مهرجان مدائن التراث) إلا ما كان من تأجير بعض العائلات منازلهم للزوار مقابل مبالغ زهيدة، لا تحسِّن من ظروفهم الاقتصادية إلا كما يحسّن قرص الباراستامول من حالة مريض بالسرطان.
نواقص ظاهرة وإخفاقات متكررة
فخامة الرئيس:
بإلقاء نظرة عامة على الواقع الذي تعيشه هذه المدن، يمكننا الحصول على ملاحظات كثيفة من النواقص والإخفاقات التي لم ينجح المهرجان في التغلب عليها، وهاكم جملة منها:
- لم تقم الوزارة المسؤولة عن المهرجان ولا الوزارات المتعاونة معها، بطباعة أي كتاب ولا أي مخطوط من المخطوطات العلمية التي تزخر بها المدينة ولا بأرشفة أي كنز من كنوزها الثمينة، وهو نفس الحال، تقريبا، في المدائن الثلاث الأخرى
- لم تقم الوزارة بصيانة أي مكتبة من المكتبات التراثية الموجودة في المدينة
- لم يستطع المهرجان استغلال كل الموارد السياحية لمدائن التراث وإقامة مشاريع سياحية مستديمة فيها، فلم نسمع بإنشاء ولا فندق واحد، بلْهَ إقامات للسياح...
- لم يحصل أيّ استثمار جادّ في المجال الزراعي، بل لم يظفر المزارعون ولا المنمّون بشيء ذي قيمة من المهرجان
- العجز التام عن وضع حد لهجرة السكان المستمرة إلى العاصمة،
- العجز التام عن إنشاء أو تشجيع مشاريع جادّة تهدف إلى عودة المهاجرين إلى ديارهم
- لم يحقق المهرجان أي نتيجة فعالة في قطاع التشغيل، والتكوين، بالنسبة لساكني المدن القديمة وخاصة للشباب...
ولائحة الإخفاقات وعدم الإنجاز طويلة عريضة نكتفي بهذا القدر منها...
ولو عقدتم، سيدي الرئيس، مقارنة بسيطة بين كلفة هذا المهرجان المالية واللوجستيكة الهائلة ومردوديته على وضعية المدن الأربعة، لفهمتم أن استمراريته، على هذا النهج على الأقل، هي مجرد عبث واستعراض لا فائدة منه. مما يحدو بنا للتساؤل مرة أخرى: من الذي يستفيد فعلاً من هذه المهرجان السنوي، هل هو المواطن ومدينته، أم فئات أخرى ليس لها علاقة بمدائن التراث؟
ما الحل؟
يتحتم تغيير فكرة (مهرجان مدائن التراث) من مهرجان استعراضي إلى مشروع تنموي محلي شامل، يحترم الخصوصية الاقتصادية والاجتماعية لكل مدينة من مدائن التراث الأربعة. سيكون هذا المشروع التنموي الشامل أكثر إبداعية وابتكارية؛ فيهتم أساسا بالتنمية الثقافية والاقتصادية لهذه المدن على اعتبارها تراثا إنسانيا ينبغي المحافظة عليه. ومن المهم أيضا أن لا ينعقد كل أربع سنوات، كما العادة، بل يكون مجاله الزمني ممتد على مدار العام. ومن المستحسن أن يشرف على تنفيذه المجلس الجهوي في الولايات التي تتبع لها المدن الأربعة، بحكم قرب المجلس الجهوي من المقاطعة، وبحكم معرفة المسؤولين فيه بأحوال المدن المعنية وبظروف أهاليها المعيشية. وهذا سيؤدي من جهة أخرى إلى الحد من مركزية الدولة، مما قد يساهم في النهوض بالاقتصاد المحلي، وفي تخفيف نزيف هجرة السكان إلى العاصمة...
فخامة الرئيس،
لقد أوضحتم في خطابات متعددة نيتكم الصارمة في محاربة الفساد والمفسدين، لكن، وحتى الساعة التي أكتب فيها هذه السطور، لم يقم وزراؤكم بأي جهود ملموسة في هذا المجال. ولقد آن الأوان لأن تجعلوا من نسخة مهرجان شنقيط 2024، بداية فعلية لمحاربة هذا الفساد، بأن تطالبوا بتحقيق جاد وعميق في ميزانية المهرجان وفي كل الميزانيات التنموية المخصصة للمدن التاريخية الأربعة، وخاصة مشروع المياه. ولعمري سوف ترون العجب من اختلالات الصرف والتسيير، ولَسَـيـدهشكم مقدار العبث والتلاعب بالمال العالم وبمصير بؤساء المواطنين في مدائن التراث.
وأخيرا، لكم مني كل الاحترام والتقدير.