أظهرت الأيام الماضية أن أمريكا بكل قوتها وجبروتها غير قادرة حتى الآن على حسم حرب الحرائق لصالحها، فلم تستطع خلال أسبوع كامل أن توقف اشتعال تلك الحرائق وتمددها في ولاية كاليفورنيا، بل على العكس من ذلك، فقد أظهرت عجزا بينا في مواجهتها، واللافت في الأمر أن هذه الحرائق قد اختارت ـ وبمنتهى الذكاء ـ التوقيت الأكثر إحراجا لإعلان حربها على أمريكا، واختارت كذلك المكان الأكثر استفزازا لتجعل منه منطلقا وساحة لحربها.
فعلى مستوى التوقيت فقد اختارت الحرائق الساعة صفر الأمثل، فبدأت في الاشتعال في فترة "رخوة سلطويا"، انتهى فيها تقريبا حكم الرئيس السابق، ولم يبدأ فيها عمليا حكم الرئيس الجديد، ليس هذا فقط، بل إنها إضافة إلى ذلك فقد اختارت اللحظة الأكثر إحراجا للرئيس القادم (ترامب)، فردت على تهديده الذي وعد فيه بجحيم في الشرق الأوسط، بشكل سريع وقوي، فما كاد ترامب المتغطرس ينهي تهديده ذاك، حتى اشتعلت الحرائق في لوس انجلوس، وكأنها أرادت أن تقوله له : يا هذا عليك أولا أن تطفئ الحرائق التي اشتعلت في بلدك من قبل أن تهدد بإشعال الحرائق في الشرق الأوسط.
لم تتوقف دقة اختيار التوقيت عند هذا الحد، فعلى مستوى المناخ، اختارت الحرائق أن تشتعل في التوقيت "الأمثل مناخيا"، أي بعد أن طال توقف الأمطار، واشتد الجفاف، وتعاظم هبوب الرياح الحارة، وزادت سرعتها.
فهل كان اختيار الحرائق لهذا التوقيت بالذات لإشعال حربها في أمريكا مصادفة؟
لن أجيب على سؤال التوقيت، ولكني في المقابل سأطرح سؤال المكان.
لقد اختارت الحرائق ساحة معركتها بذكاء شديد، لا يقل عن ذكائها في اختيار التوقيت، فاختيارها للمكان كان اختيارا استراتيجيا، وبكل ما تحمله الكلمة من معنى، فمن المعروف أن الرئيس ترامب رئيس يعبد المال ويقدسه، وهو في العادة لا يحسب الخسائر إلا بالمال، ففقدان مليارات الدولارات قد يكون أشد وقعا وتأثيرا في نفسه من موت عشرات الأمريكيين، ولذا فقد اختارت الحرائق ـ وبذكاء تحسد عليه ـ أن تجعل من المكان الذي يوجد فيه أثرياء أمريكا، وتوجد فيه أغلى العقارات، ساحة لمعركتها، فطافت على بعض مساكن أثرياء أمريكا فدمرتها تدميرا، وتركتها قاعا صفصفا، وهو ما يعني حسابيا، وحسب آخر التقديرات، أن أمريكا ستخسر ما بين 130 إلى 150 مليار دولار في أقل من أسبوع، وهذا الرقم الضخم قابل للزيادة في الأيام القادمة.
لا يتوقف الذكاء في اختيار المكان عند هذا الحد، فتدمير الحرائق للبقعة التي شيدت عليها المنازل الأغلى في أمريكا، وربما الأغلى في العالم، قد أتاح لهواة التصوير ومحترفيه أن يلتقطوا صورا لتلك البقعة التي كانت ـ وإلى وقت قريب ـ جنة في الأرض، فإذا بها وقد أصبحت كالصريم، أن يلتقطوا لها صورا تذكر ـ وفي أدق تفاصيلها ـ كل من رآها بصور غزة التي دمرتها أمريكا بشراكة مع العدو الصهيوني ( بالنسبة لي فإن المسؤول الأول عن حرب الإبادة في غزة هو أمريكا ومن بعد ذلك تأتي مسؤولية العدو الصهيوني).
لقد أرادت أمريكا وشريكتها في الإجرام (إسرائيل) أن تجعلا من غزة المكان الأكثر خرابا ودمارا في العالم، بل أن تجعلا منها مكانا غير صالح للسكن إطلاقا، فإذا بما فعلته أمريكا وإسرائيل في غزة بعد أكثر من عام من حرب الإبادة الأكثر وحشية في التاريخ الحديث، تفعله الحرائق في ساعات معدودة في لوس انجلوس، وتحديدا في مناطقها الأغلى، حيث كان يسكن الأثرياء و"علية القوم" في أمريكا.
لقد فرضت الحرائق على الأمريكيين وعلى غيرهم أن يقارنوا بين صور الدمار الذي حل بغزة بعد أكثر من عام من حرب الإبادة، والدمار الذي حل بمنطقة الأثرياء في لوس انجلوس بعد ساعات معدودة من الحرائق، وعندما يُقارنوا بين الصور هنا وهناك، سيجدون تشابها كبيرا، إن لم أقل تطابقا تاما، وهذا التشابه الكبير بين "الخرابين" هو الذي جعل الرئيس بايدن، وصورة دمار غزة حاضرة في ذهنه، حتى وإن لم يذكرها بالاسم، يصف ما حدث في بلده بأنه : "بمثابة مسرح حرب".
فهل كان اختيار الحرائق لهذا البقعة بالذات من لوس أنجلوس مصادفة؟
هذا سؤال ثان لن أجيب عليه، ولكني في المقابل سأحاول أن أجيب على سؤال ثالث سأطرحه الآن، وهو السؤال الذي يقول : هل من دروس وعبر من حرب الحرائق المشتعلة حاليا في أمريكا؟
لقد أبرقت حرائق أمريكا بعدة برقيات ورسائل إلى صناديق بريد متعددة، ولكن المشكلة أن تلك الرسائل والبرقيات قد لا تجد من يقرؤها بتأمل، فيستفيد مما بين سطورها ـ عفوا مما بين رمادها ـ من دروس وعبر.
أهم تلك الرسائل وُجهت ـ وبلغة عنيفة وخشنة ـ إلى جهات عديدة داخل أمريكا، وعلى رأس تلك الجهات يأتي الرئيس ترامب، والذي تقول له رسالته بأن أمريكا ومهما بلغت قوتها وعظمتها فإنها قد تهزم من طرف "عدو ضعيف" أعلن الحرب ضدها، وهو ما زال مجرد شرر من نار يتطاير هنا وهناك، وذلك من قبل أن يتحول إلى حريق لا يبقي ولا يذر. فهل سيُحْسِن ترامب قراءة الرسالة التي أرسلتها له الحرائق قبيل تسلمه للرئاسة رسميا؟ الراجح أن ترامب لن يحسن قراءة تلك الرسالة، ومع ذلك فسيبقى هناك احتمال، حتى ولو كان ضعيفا، أن يحسن قراءتها، ومن مؤشرات ذلك ما تناقلته بعض وسائل الإعلام من أن ترامب طلب من حكومة العدو الهدوء في الشرق الأوسط، وعلى مختلف الجبهات، وذلك حتى يتمكن من التركيز على قضايا بلده الداخلية.
كان على أمريكا أن تأخذ الدرس في وقت سابق من جائحة كورنا، من ذلك الفيروس الصغير الذي لا يرى بالعين، والذي هزها بقوة، وهز معها العالم كله، فأغْلِقَتْ الحدود، وتعطلت حركة الطيران، وانهارت اقتصاديات بعض الدول، وخلال تلك الجائحة وجدت أمريكا نفسها ـ كغيرها من بلدان العالم ـ عاجزة عن توفير الكمامات لمواطنيها، وهو ما ألجأها إلى القرصنة حتى على أصدقائها، فقرصنت كميات كبيرة من الكمامات كانت في طريقها إلى ألمانيا وفرنسا قادمة من الصين، فمن كان يتصور في تلك الفترة أن أمريكا بكل قوتها وجبروتها ستعجز عن توفير كمامات من قماش لمواطنيها؟
واليوم تجد أمريكا نفسها عاجزة عن وقف حرائق تلتهم كلما يقع في طريقها، فلا ماء لديها يكفي لإطفاء الحرائق، ولا رجال إطفاء قادرون على إخماد كل هذه النيران، وهكذا بدت أمريكا الخبيرة في إشعال الحرائق، والتي أحرقت العديد من المدن في العقود الأخيرة، بدت عاجزة تماما عن إطفاء الحرائق التي اشتعلت في واحدة من أهم مدنها.
أليس في ذلك الكثير من الدروس والعبر لمن يحسن قراءة ما يكتبه الآن رماد الحرائق في أمريكا؟
هناك دروس وعبر أخرى اختارت الحرائق أن تبرقها في رسائل غير مشفرة، وأن ترسلها عبر البريد المضمون والسريع، وأن تضعها مباشرة ـ ودون وسيط ـ في منازل "كبار القوم" في أمريكا، من مشاهير السينما، وصناع السياسة، ورجال الأعمال، فمن المعروف أن هؤلاء هم صُنَّاع القرار في أمريكا، وأنهم هم الذين كانوا ـ وما زالوا ـ يزيفون الحقائق، ويفشون الكذب، ويجعلون من المجرم في إسرائيل ضحية، ومن الضحية في فلسطين مجرما وإرهابيا وآكلا للحوم البشر، ومصاصا لدماء الأبرياء.
نعم، لقد زيف أولئك الذين احترقت منازلهم الفاخرة في لوس انجلوس حقائق التاريخ والجغرافيا، وكان صناع السينما يتصدرون لائحة مزيفي تلك الحقائق، ولكن الحرائق ـ وفي ذلك عبرة لمن أراد أن يعتبرـ باغتتهم جميعا، بكتابة قصة عنيفة، وإعداد سيناريو أكثر عنفا، وتصوير وإخراج فيلم في منتهى العنف، وكانت مشاهد العنف في ذلك الفيلم حقيقية لا خيال، وهي حقيقة تفوق خيال كل مخرجي أفلام العنف في أمريكا.
لقد كان ضحايا العنف هذه المرة هم صناع مشاهد العنف في السينما الأمريكية، وفي ذلك مفارقة لافتة، وهم أيضا صناع الكذب والتلفيق، فهم الذين جعلوا من الضحية مجرما في أفلامهم، ومن المجرم ضحية، فقلبوا الحقيقة رأسا على عقب، فهل سيأخذ هؤلاء العبرة بعد أن أصبحوا ضحايا للحرائق المشتعلة، وبعد أن رأوا في بث مباشر كيف كانت منازلهم التي شيدوها بملايين الدولارات تحترق وتتحول إلى خراب خلال ساعات، فهل سيجعلهم ذلك يشعرون بالظلم القاسي الذي يتعرض له الفلسطينيون منذ ثمانين سنة تقريبا، لم يمر منها يوم واحد إلا ودُمِّر فيه منزل أو قُتِلت فيه امرأة مسالمة أو طفل صغير أو شيخ طاعن في السن؟
وهل سيقرأ المواطن الأمريكي العادي تلك الرسائل التي تطايرت مع النيران والرياح، والتي لاشك أنها وصلت لكل أمريكي أينما كان، وهي الرسائل التي تضمنت أسئلة بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، أسئلة من قبيل : فبأي منطق يستمر المواطن الأمريكي في دفع الضرائب لتمويل حروب الإبادة في فلسطين؟ أليس الأولى أن توجه تلك الأموال لتعزيز قدرات الإطفاء في بلد فعلت به الحرائق ما فعلت، أو لتوفير الكمامات إن ظهرت جائحة جديدة؟
لا أظن أن "علية القوم" في أمريكا سيقرؤون تلك الرسائل قراءة فطنة، ولكن يبقى الأمل معقود في شباب أمريكا، وفي طلاب جامعاتها بشكل خاص، والذين ـ والحق يُقال ـ لم يقصروا خلال السنة الماضية في التعبير عن تنديدهم بحرب الإبادة في فلسطين، والتي يمولها بلدهم من الضرائب التي يدفعون.
وتبقى هناك رسالة بسيطة وعميقة وجهتها تلك الحرائق للعرب والمسلمين، حكاما وشعوبا، وتقول تلك الرسالة بلغة فصيحة وصريحة، إن العالم لا يتحرك وفق إرادة أمريكا ومزاجها، فأمريكا أضعف من أن تحمي نفسها من الجوائح التي يتسبب فيها فيروس لا يُرى بالعين، والحرائق التي قد يتسبب فيها الشرر من النار.
لقد أصابت هذه الحرائق قوة أمريكا وجبروتها في مقتل، وعلى من كان يعبد الصنم الأمريكي من حكام العرب والمسلمين أن يلتقط الرسائل التي أبرقتها الحرائق المشتعلة أمريكا، وأن يستحضر في كل حين، أن لهذا العالم خالق واحد، ورب واحد، هو الذي يديره كيفما شاء، وما الريح والنار إلا جند من جنوده التي لا يعلم عددها إلا هو.
ويبقى أن أقول بأن السبب الذي جعلني لا أجيب على سُؤاليْ التوقيت والمكان، هو نظرا لكونها قد تمت صياغتهما بشكل خاطئ، كما هو الحال بالنسبة للعنوان أيضا، وكل ذلك كان لاستدراج بعض القراء لمواصلة القراءة، فالمسألة هنا لا تتعلق باقتناص الفرص لاختيار التوقيت والمكان المناسبين، كما أشير إلى ذلك في بداية المقال، وخالق هذا الكون لا ينتظر الفرص حاشاه، وهو إذا ما أراد للحرائق أن تكون مدمرة، خلق لها الظروف المناسبة لكي تكون مدمرة، فأوقف الأمطار، وزاد من حدة الجفاف، وسرَّع الريح، وكل تلك الأسباب تجعل الحرائق أسرع انتشارا، وأشد فتكا، وأقوى تدميرا.
حفظ الله بلاد العرب والمسلمين..