أم الروايات رواية غابون وكلامه الباكي/ محمد احظانا

سبت, 02/15/2025 - 10:25

من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية(27)

أم الروايات
رواية غابون وكلامه الباكي

تصدر الراوي مجلسه العامر بالآذان المشرعة والنفوس المنتظرة وقال:
قبل كل شيء؛ حاجيتكم ما جئتكم: ماهي فاطمة بنت القاسم، طلعت ذاك العلب تخاصم؟!
قال شاب في الحلقة: لعلها اللوادية. فضحكت منه الحلقة.
- ليست هي. جنبك الآخر.
فانبرى كهل من أهل المخزن مجيبا: 
- هي الرصاصة.
فعلق الراوي:
-أحسنت. لو لم تكن من أهل المخزن لما عرفتها.

الفصل الأول

قال لكم ماقال لكم..: 
إن غابون خرج في أحد صباحات الشتاء وقد طرده الجوع القاتل من جحره، فسار على وجهه مثل المعتوه يطلب أي رزق يلقاه.. حتى إذا أنهكه الركض والمشي على مهل، والتسلل والتحسس... رأى قوما يطبخون لحما تشق رائحة بخاره الرؤوس من مسافة شهر، يغلي وينطبخ.. وينطبخ ويغلي في قدر عظيمة، فلم يزل يغالب لعابه، و يتذرع بالأشجار والربا والسواتر.. حتى أيقن أنه أصبح منها بحيث ينقض عليها ويخطفها دون أن يحول الموت بينه وبينها. 
صلى على خير الرسل، ونوى نية التضحية في سبيل اللحم، وأقبل ريحا وعماية واختطفها.. وانطلق بسرعة البرق لينجو من أهل اللحم الذين تنادوا عليه بنذالة وشح، يطاردونه جميعا دون أن يكله أحد منهم إلى أحد.. يرشقونه بالعمد والعصي ويرجمونه بالحجارة: ويلك يالوراني.. ويسبونه ويذمون أمه وأباه  لسوء تربيتهم له، ظلما وعدوانا، ويغتابون عشيرته، ويدعون عليه دعاء القواطع.. وينالون من عرض أسرته وفصيلته التي تؤويه، حتى صموا أذنيه بلغطهم الشنيع.
  

****
لم يبال غابون بضوضاء هؤلاء البخلاء الذين لايرعون حقا للضيف الجائع، ولا المحتاج، ولا طالب الصدقة. وكان همه وهو يحاول النجاة بجلده أن يتعامل بحكمة مع عروة القدر الساخنة التي شوت يديه، مع أنه يبادلهما على الإمساك بها. وكان يحافظ ببراعة متوارثةعلى أن لا تنسكب قطرة واحدة من المرق الثمين.
فكر غابون في كل شيء إلا أن يرمي القدر لأي سبب، فتلك أمها ميتة.

****
بعد مرور غابون بأحياء عديدة تكالبت كلها على التنكيل به وتجريحه وأكل حضرته.. استطاع أن ينجو بقدره المترعة لحما ناضجا ومرقا تشبعك رائحته قبل أن تذوقه. كل شيء يهون في سبيل المذاق يا أنا.

الفصل الثاني
حدث غابون نفسه بأن أفضل ما يفعله بعد النجاة بالغنيمة الشهية أن يلجأ إلى شجرة ذات أكناف مغمة، ويتستر فيها عن عيون الطامعين والحساد، ويطعم نفسه من اللحم الناضج الذي لاعهد له به، دون أي إزعاج حتى من الذباب.. إلى أن يودع الجوع والقرم، ويعتدل طبعه. وبعد ذلك يقرؤها فاتحة.

****
اختار غابون شجرة تمنى أن يجد مثلها قبل اليوم، ورفع أغصانها المسبلة على الأرض, ودخل تحتها متهاديا يتلمظ، ووضع القدر بين يديه، وجلس متربعا حتى زايل عينيه عمى الظلام المفاجئ، فإذا هو بأسد  عظيم، منبطح تحت الشجرة يحدق فيه بعينيه الصفراوين الغبيتين كأنهما شعلتان منطفئتان للتو، ولا حاجة لإيقادهما إلا بنفخة واحدة. 
زال عقله، وتحردت رجلاه، و سبقه تخمينه إلى التصرف المناسب فقرب القدر من الأسد الكريه، وقال له بانكسار وحسرة وزفيره يصاعد في السماء، والرعشة ترفعه وتطرحه.:
- بابه، هاك هذا القرى، بعثته لك أمي تكرما منها.

الفصل الثالث
قال بابه لغابون ممتنا:
-شكرا لها. كنت أسمع أنها سيدة كريمة ولم أصدق ذلك إلى أن أرسلتك بهذا القرى المناسب.
كيف حالها وحال أبيك وحال عيالهما مع هذا العام الأشهب؟ أنفخ لي على اللحم حتى يبرد فهو ساخن.
لما خفت حرارة اللحم قال بابه وهو يتثاءب عن أنيابه العصل:
- ناولني اللحم عضوا عضوا ولا تعجل علي. أدخله في فمي واحذر على أصابعك.
أخذ غابون يقدم اللحم لبابه، وعيناه تذرفان الدموع غلبة.
سأله بابه:
-مالك تبكي؟ البكاء للنساء.
فرد عليه غابون متلعثما:
-أنا لا أبكي وإنما هي شقيقة أصابت عيني من رياح الشتاء الباردة.
كيف حال أبيك مع آلام الظهر؟
-تعافى لله الحمد.. مشكلته الوحيدة هي القرم للحم واللحم نادر.
-حسنا، أطلب منك أن تدلك لي عنقي وكاهلي فقد أصابني عناق مؤلم لأن وسادتي عالية.
- أمرك ياعمي. أعني ياملكي.
- أرجو أن لاتكون لديك رغبة في مشاركة ملكك هذا اللحم اللذيذ.
- حاشا. أمي لم ترسل لك إلا ما فضل عنا.
تجشأ الأسد من الشبع ومدد جسمه قائلا لغابون:
- طيب. يسرني أن آكل طعامي وحدي كسائر الملوك.. لابأس في أن تحملني على كاهلك إلى شجرة أخرى أكثر كثافة من هذه فأنا لا أكاد أستطيع مبادلة قوائمي من الإرهاق.
- أمرك ياسيدي الملك.
حمل غابون الأسد الثقيل على كاهله، ولولا الفزع منه ما استطاع رفعه عن الأرض؛ لكن الخوف مثل الشجاعة يحدث المعجزات أحيانا.
سأل بابه غابون:
- هل أنا ثقيل الوزن؟ لا أحد يعرف حقيقة وزنه إن لم يجد من يقدره له.
- بل أنت خفيف جدا.. لا أقول كالريشة، ولكن شيء قريب منها.
- شكرا لك، حطني عن كاهلك هنا. استودعك الله. بلغ شكري وتحياتي لأمك الكريمة، وقل لأبيك إن عليه بأمعاء الحمير الدافئة، وسيشفى مما به. لا تنس قدر أمك الخاوية. أعدها إليها فليس عندكم ما تطبخوز فيه لحمكم غيرها.

الفصل الرابع

انطلق غابون مذهولا من نجاته وهو لايصدق أنه حي، وحمل قدر أمه التي نزل بابه كامل حقها بلسانه، ولما بلغ مأمنه أخذ يصفع خديه ويجلح وجهه، وينطح القدر برأسه ليكسر جمجمته، وينوح على خسارته العظيمة، ويقرع نفسه، فيسألها ويجيبها:
- قلت لبابه إن أمي أرسلت إليه قدر اللحم الناضجة؟
- قطع الله لسانا قلتها به.
- قلت له إنني شبعان من اللحم؟
- ثكلتني أمي إن كنت صدقته.
- قلت له إن أبي مصاب بألم الظهر؟
- ألا ما أكذبني. عهدي به يوم ولدتني أمي.
- قلت له إنه ليس ثقيل الوزن؟
- كتبها علي الحفظة عشر سيئات مقبولة برأس مدق..

واخسارتاه..
وانخرط غابون في بكاء وعويل لم ينقطع بعدها. وأصبح البكاء والعويل هو كلامه. ولذا لم يسمع الناس حتى اليوم من كلامه غير البكاء والولولة والنحيب.

****
قال الراوي:
" ورجعت أنا عنهم إلى أهلي، أبقاني الله سالما أحدث عن سبب تحول كلام الضبع إلى بكاء دائم.."

م. أحظانا